اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا} (153)

قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ [ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً }*{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً }*{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }*{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً }*{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }*{ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }{[10234]}

وذلك أن كَعْبَ بنَ الأشْرَف ، وفنحَاصَ بن عَازُورَاء من اليَهُودِ قالا لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم : إن كُنْتَ نَبِيّاً فأتِنَا بكِتَابٍ جُمْلةً من السَّماءِ ؛ كما أتَى [ به ]{[10235]} مُوسى – عليه السلام - ، فأنزل الله – تعالى - : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ }{[10236]} . وكان هذا السُّؤال مِنْهُم تَحَكُّماً واقْتِرَاحاً ، لا سُؤال انْقِيَادٍ ، واللَّه - تعالى - لا يُنَزِّل الآيَاتِ على اقْتِرَاحِ العِبَادِ ، والمَقْصُود من الآيَةِ : بيان ما جَبِلوا عليه من التَّعنُّتِ ؛ كأنه قِيلَ : إن مُوسَى لمَّا نزلَ عليه كِتَابٌ من السَّمَاءِ ، لم يكْتَفُوا بِذلكَ القَدْر ، بل طَلَبُوا مِنْهُ الرُّؤيَة على سَبِيلِ المُعَايَنَةِ ، فكان طَلَبُ هؤلاءِ الكِتَاب لَيْس لأجْلِ الاسْتِرْشَادِ ، بل لمَحْضِ العِنَادِ .

قوله : " فَقَدْ سَأَلُوا " : في هذه الفاءِ قولان : أحدهما : أنها عاطفةٌ على جملة محذوفة ، قال ابن عطيَّة : " تقديره : فلا تبال ، يا محمَّد ، بسؤالِهِم ، وتشطيطهم ، فإنها عادُتُهمْ ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك .

والثاني : أنها جوابُ شرطٍ مقدَّر ، قاله الزمخشريُّ أي : إن استكْبَرْتَ ما سألوه منْكَ ، فقد سَألُوا " ، و " أكْبَرَ " صفةٌ لمحذوف ، أي : سؤالاً أكْبَرَ من ذَلِكَ ، والجمهور : " أكبرَ " بالباء الموحدة ، والحسن{[10237]} " أكْثَرَ " بالثاء المثلثة .

ومعنى " أكْبَر " أي : أعْظَم من ذَلِك ، يعني : السَّبْعِين الَّذِين خَرَجَ بِهِمْ [ مُوسَى ]{[10238]} إلى الجَبَلِ ، { فقالُوا : أرِنا اللَّه جَهْرَةً } أي : عِياناً ، فقولهم : " أرِنَا " جُمْلَة مفَسِّرة لِكبَرِ السُّؤال ، وعِظَمِه . [ و " جَهْرَةَ " تقدَّم الكلام عليها ، إلا أنه هنا يجوز أن تكون " جَهْرَةً " من صفةِ القوْلِ ، أو السؤالِ ، أو مِنْ صفةِ السائلين ، أي : فقالوا مجاهِرِين ، أو : سألوا مجاهرينَ ، فيكونُ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، أو على المَصْدر ، وقرأ الجمهور " الصَّاعِقَةُ " . وقرأ النَّخَعِيُّ{[10239]} : " الصَّعْقَةُ " وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة{[10240]} والباء في " بِظُلْمِهِمْ " سببيةٌ ، وتتعلَّق بالأخْذ ] .

قوله : { ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ } يعنى : إلهاً ، { مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وهي الصَّاعِقَة ، وسمَّاها بَيِّنَاتٍ - وإن كَانَتْ شَيْئاً وَاحِداً ؛ لأنها دالَّةٌ على قُدْرَة الله - تعالى - ، وعلى عِلْمهِ وعلى قدمِهِ ، وعلى كَوْنهِ مُخَالِفاً للأجْسَامِ والأعْرَاضِ ، وعلى صِدْق مُوسَى . وقيل : " البَيِّنَات " إنْزَال الصَّاعِقَةِ وإحْيَاؤُهُم بعد إمَاتَتِهم .

وقيل : المُعْجِزَاتُ التي أظْهَرَها لِفِرْعَوْن ، وهي العَصَا ، واليَدُ البَيْضَاءُ ، وفَلْقُ البَحْرِ ، وغيرها من المُعْجِزَات القاهرة{[10241]} .

ثم قال : { فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ } ولم نَسْتَأصِلْهُم .

قيل : هذا اسْتِدْعَاءٌ إلى التَّوْبَة ، مَعْنَاه : أن أولئك الَّذِين أجْرَمُوا تَابُوا ، فَعَفَوْنَا عَنْهُم ، فتُوبوا أنْتُم حتى نَعْفُو عَنْكُم .

وقيل : مَعْنَاه : أن قَوْم مُوسَى - وإن كَانُوا قَدْ بَالَغُوا في اللِّجَاجِ والعِنَادِ ، لكنا{[10242]} نَصَرْنَاهُ وقَرَّبْنَاهُ فعَظم أمْرُه وضَعُفَ خَصْمُه ، وفيه بِشَارَةٌ للرَّسُول – عليه الصلاة والسلام – على سبيلِ التَّنْبِيهِ والرَّمْزِ ، وهو أنَّ هؤلاء الكُفارِ وإن كانوا يُعَانِدُونه – فإنَّه بالآخِرَة يَسْتَوْلي عَلَيْهم ويَقْهَرُهُم .

ثم قال [ - تعالى - ]{[10243]} : { وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي : حُجَّة بَيِّنَة ، وهي الآيات السَّبْع{[10244]} .


[10234]:سقط في ب.
[10235]:سقط في أ.
[10236]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/356) عن السدي.
[10237]:ينظر: المحرر الوجيز 2/131، والبحر المحيط 3/402، والدر المصون 2/454.
[10238]:سقط في ب.
[10239]:وبها قرأ أبو عبد الرحمان السلمي كما في المحرر 2/131، والبحر المحيط 3/402، والدر المصون 2/454.
[10240]:آية: 55.
[10241]:في ب: الباهرة.
[10242]:في ب: ولكن.
[10243]:سقط في أ.
[10244]:في ب: التسع.