التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا} (153)

قوله تعالى : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) . ذلك في تعنت اليهود وكيدهم للإسلام ونبيه وأهله . وهو تعنت فاجر يكشف عن طبائع هؤلاء الناس الذين يستمرئون الكيد والعناد والشطط طيلة حياتهم وفي كل سلوكهم وتعاملهم مع الآخرين . وهنا تكشف الآية الكريمة عن شطر من هذه الطبائع الشاذة التي يخالطها اللّي والمرض بغير مبارحة . فقد سألوا النبي محمدا ( ص ) أن ينزل عليهم من السماء كتابا ليس مفرقا ، بل جملة واحدة يتضمن تصديقا له فيطلع عليه الناس . وذكر أيضا أنهم سألوه إنزال هذا الكتاب على هيئة نسخ مكتوبة إلى فلان وفلان من الناس فيرونه عيانا ليؤمنوا ويصدقوا بما جاءهم به من رسالة .

وفي قول آخر أشد نكرا وهو أنهم سألوه ( ص ) أن يصعد إلى السماء بنفسه وهم ينظرون إليهم ثم يعود إليهم بكتاب من عند الله فيه تصديق له . وذلك هو التعنت الجاحد المكابر والتحدي الفاخر الذي لا يستند إلى منطق ولا خلق إلا اللجوج والعتوّ والصلف . إنه منطق الفاجرين الحمقى وخلق المعاندين والمرضى في غير ما اعتدال ولا اتزان لا في الطلب ولا في السؤال ولا في الاقتضاء ولا في التخاطب ولا في غير ذلك من أساليب السلوك والتعامل . والمسألة لا تحتمل مثل هذا العنت والجحد ولا مثل هذا السؤال الفاجر الخصيم ، لو كانت الطبائع سليمة سوية أو كانت النفس مبرأة من اللّىّ والمرض . وكل الأمر أن رجلا من الناس قد أوحي إليه فاحتمل أمانة التبليغ والإرشاد ، مع أنه في شخصه وسلوكه وسيرته وفي مجموع طبائعه وسجاياه يزجي بأوفى الدلالة على أنه نبي مرسل . ومعلوم لكل ذي لب أن من يحتمل الكذب لا جرم أن تتبدى في شخصه علائم الكذب ولو بعد حين ، لكن هذا النبي الأمي ( ص ) كانت تتجلى في خلقه وسلوكه وخطابه أجلى معاني الصدق والأمانة والطهر بما يبعث على اليقين الأوفى أنه رسول كريم وأنه نبي أمين .

لم يثبّت الله نبيه بالقول الثابت وهو يبين له عن سؤال من اليهود لنبيهم موسى كان أشد نكرا مما سألوه ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) وهو سؤال لا جرم أن يكون أشد فظاعة ونكرا وأشد عتوا واجتراء على الباطل والاستكبار ، فقد سألوا نبيهم موسى أن يطلعهم على الله جهارا عيانا ودون حجاب . وذلكم سؤال مقبوح ومرفوض من الوجهة الدينية التي تستند إلى الوحي والعقل . فرؤية العبد لله لا تتحقق وذلك بالنظر لطبيعة الإنسان التي فطر عليها فهو ذو طبيعة نفسية وروحية وعضوية لا تتيسر له بموجبها حقيقة الرؤية لربه ، وذلك مطلب كبير وخطير لا يقوى على إطاقته واحتماله إلا من كان ذا طبيعة أخرى طبيعة تتضافر فيها أسباب القوة والاحتمال والتماسك إذا ما تجلى الله للإنسان . غير أن هذه الطبيعة على نحوها وتركيبها الحاليين لا تقتدر أن ترى الله جهرة . ومن جهة أخرى فإن الإجتراء على مثل هذا الطلب ينافي أدنى مقادير التواضع الذي تفرضه العقيدة الكريمة السمجة أو ينافي ظاهرة الخوف من الله أو الخضوع له إذ لا يجترأ على مثل هذا الطلب الفاسق إلا لئيم جاحد أو عتل أثيم ؛ ولذلك قد استوجب اليهود أن يحيق بهم عذاب من الله جزاء شركهم وعتوهم . فقال سبحانه : ( فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) والصاعقة هي نار تسقط من السماء مقترنة بصيحة الرعد العاتية المدمرة وقوله : ( بظلمهم ) أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم الفاجر الكنود .

وقوله : ( ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ) بعد أن بعثهم الله عقيب أخذهم بالصاعقة ، وبعد أن نجاهم الله من طغيان فرعون وإغراقه في اليم ، وبعد أن جاوزوا البحر سالمين آمنين رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا لنبيهم موسى عليه السلام : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) وذلك بيان لقوله هنا : ( ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ) فإنه رغم معرفتهم بفظاعة الإشراك واشتداد غضب الله على المشركين بالرغم من ذلك كله فقد سألوا نبيهم موسى أن يجعل لهم إلها . وتلك غاية الصفاقة والحماقة والعمه ، وغاية ما يبلغه الجاحد من استهتار وفسق وتوقح .

لكن رحمة الله أكبر من كل خطيئة وأوسع من الأرض والسماء والكائنات ، فإن رحمته وسعت كل شيء حتى وسعت كفران بني إسرائيل وعتوهم وتمردهم على ربهم بالرغم مما قارفوه من فظائع نكيرة من قتل وإفساد وتقديس للعجل ومطالبة عاتية برؤية الله جهرة ، إنه مع ذلك كله امتن الله على هؤلاء القوم فغفر لهم ( فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ) فقد عفا الله عن بني إسرائيل بما ارتكبوه من خطيئات ، وكذلك قد ثبت الله نبيه وكليمه موسى ثتبيتا مبينا بما آتاه من حجج وبراهين وهي الآيات الباهرات الدالة على صدق نبوته ورسالته .