قوله تعالى : { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } ، أي : تميل إليه ، والصغو : الميل ، يقال : صغو فلان معك ، أي : ميله ، والفعل منه : صغى يصغي ، صغاً ، وصغى يصغى ، ويصغو صغواً ، والهاء راجعة إلى زخرف القول .
قوله تعالى : { وليرضوه وليقترفوا } ، ليكتسبوا .
قوله تعالى : { ما هم مقترفون } ، يقال : اقترف فلان مالاً أي اكتسبه .
وقال تعالى : { ومن يقترف حسنةً } [ الشورى :23 ] ، وقال الزجاج : أي ليعملوا من الذنوب ما هم عاملون .
وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين ، وابتلاء المؤمنين . . لقد قدر الله أن يكون هذا العداء ، وأن يكون هذا الايحاء ، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع . . لحكمة أخرى :
( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه ، وليقترفوا ما هم مقترفون ) أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . . فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا . وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي وينالون بالأذى أتباع كل نبي ويزين بعضهم لبعض القول والفعل فيخضعون للشياطين ، معجبين بزخرفهم الباطل ، معجبين بسلطانهم الخادع . ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد . في ظل ذلك الإيحاء ، وبسبب هذا الإصغاء . .
وهذا أمر أراده الله كذلك وجرى به قدره . لما وراءه من التمحيص والتجربة . ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له ؛ ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس .
ثم لتصلح الحياة بالدفع ؛ ويتميز الحق بالمفاصلة ؛ ويتمحض الخير بالصبر ؛ ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة . . وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله . . أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء . . إنها مشيئة الله ، والله يفعل ما يشاء . .
والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية ، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى ؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة . . هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة :
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون . . شياطين الإنس والجن . . تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة . . هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه . . خطة مقررة فيها وسائلها . . ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ) . . يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية ؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا ! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله . . إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم ؛ ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً ! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً . ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلاً !
ولكن هذا الكيد كله ليس طليقاً . . إنه محاط به بمشيئة الله وقدره . . لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره . ومن هنا يبدو هذا الكيد - على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه - مقيداً مغلولاً ! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط . ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع - كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر ، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم . . كلا ! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله . وقدرتهم محدودة بقدر الله . وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله - في حدود الابتلاء - ومرد الأمر كله إلى الله .
ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها . . ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين ، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود ، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين ! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق ، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم . أما عداوة الشياطين ، وكيد الشياطين ، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ .
{ ولتصغى إليهم أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } عطف على { غرورا } إن جعل علة ، أو متعلق بمحذوف أي وليكون ذلك { جعلنا لكل نبي عدوا } . والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا : اللام لام العاقبة أو لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون أو لام الأمر وضعفه أظهر ، والصغو : الميل والضمير لما له الضمير في فعلوه . { وليرضوه } لأنفسهم . { وليقترفوا } وليكتسبوا . { ما هم مقترفون } من الآثام .
{ ولتصغى إليه } معناه لتميل يقال صغى يصغى وأصلها يصغي بكسر الغين لكن رده حرف الحلق إلى الفتح ويقال صغى يصغو وأصغى يصغي ويصغى و { أفئدة } جمع فؤاد و «يقترفون » معناه يواقعون ويجترحون ، وهي مستعملة أكثر ذلك في الشر والذنوب ونحوه ، والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال على أنها لام كي ، فإما أن تكون معطوفة على { غروراً } [ الأنعام : 112 ] ، وإما أن تكون متعلقة بفعل مؤخر تقديره فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك ، فهي لام صيرورة قاله الزجّاج ، ولا يحتمل أن تكون هذه اللامات على هذه القراءة لام الأمر وضمنها الوعيد ، وتبقى في «لتصغى » على نحو ما جاء من ذلك في قول الشاعر :
ألم يأتيك الخ . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5066]} ؟
إلى غير ذلك مما قد قرىء به ، قال أبو الفتح قرأها الحسن بالتسكين في الثلاثة وهي لام كي وهي معطوفة على قوله { غروراً } [ الأنعام : 112 ] التقدير لأجل الغرور «ولْتصغى » وإسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال قوي في القياس .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن تحمل قراءة الحسن بسكون اللامات الثلاثة على أنها لام الأمر المضمن الوعيد والتهديد ، والخط على هذه القراءة «ولتصغ » ذكر أبو عمر الداني أن تسكينه في اللامات الثلاثة وكذلك قال أبو الفتح وذكر أن الحسن إنما يسكن اللامين الثانية والثالثة .
قال القاضي أبو محمد : وذلك يخالفه خط المصحف في «ولتصغى » .
قال القاضي أبو محمد : ويتحصل أن يسكن اللام في { ولتصغى } على ما ذكرناه في قراءة الجماعة ، قال أبو عمرو : وقراءة الحسن إنما هي «لتصغي » بكسر الغين ، وقراءة إبراهيم النخعي «لتُصغي » بضم التاء وكسر الغين من أصغى يصغي ، وكذلك قرأ الجراح بن عبد الله .
عُطف قوله : { ولتصغى } على { غروراً } [ الأنعام : 112 ] لأنّ { غروراً } في معنى ليغرّوهم . واللام لام كي وما بعدها في تأويل مصدر ، أي ولصغى ، أي مَيل قلوبهم إلى وحيِهم فتقوم عليهم الحجّة . ومعنى { تصغى } تميل ، يقال : صَغَى يَصغى صَغْياً ، ويَصْغُو صَغواً بالياء وبالواو ووردت الآية على اعتباره بالياء لأنّه رسم في المصحف بصورة الياء . وحقيقته المَيل الحسي ، يقال : صَغى ، أي مال ، وأصغى أمال . وفي حديث الهِرّة : أنّه أصغى إليها الإناءَ ، ومنه أطلق : أصغى بمعنى استمع ، لأنّ أصله أمال سمعه أو أذُنه ، ثمّ حذفوا المفعول لكثرة الاستعمال . وهو هنا مجاز في الاتّباع وقبول القول .
والَّذين لا يؤمنون بالآخرة هم المشركون . وخصّ من صفات المشركين عدمُ إيمانهم بالآخرة ، فعُرّفوا بهذه الصّلة للإيماء إلى بعض آثار وحي الشّياطين لهم . وهذا الوصف أكبر ما أضرّ بهم ، إذ كانوا بسببه لا يتوخّون فيما يصنعون خشية العاقبة وطلَبَ الخير ، بل يتَّبعون أهواءهم وما يُزيَّن لهم من شهواتهم ، معرضين عمّا في خلال ذلك من المفاسد والكفرِ ، إذ لا يترقَّبون جزاء عن الخير والشرّ ، فلذلك تصغى عقولهم إلى غرور الشَّياطين . ولا تصغَى إلى دعوة النَّبيء صلى الله عليه وسلم والصّالحين .
وعطف { وليرضوه } على { ولتصغى } ، وإن كان الصّغْي يقتضي الرّضى ويسبّبه فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء وأن لا تكرّر لام التّعليل ، فخولف مقتضى الظاهر ، للدلالة على استقلاله بالتّعليل ، فعطف بالواو وأعيدت اللاّم لتأكيد الاستقلال ، فيدل على أن صَغى أفئدتهم إليه ما كان يكفي لعملهم به إلاّ لأنَّهم رَضُوه .
وعطْفُ { وليقترفوا ما هم مقترفون } على وليرضوه كعطف وليرضوه على { ولتصغى } .
والاقتراف افتعال من قرف إذا كسب سيئة ، قال تعالى بعد هذه الآية : { إنّ الذين يكسبون الإثم سيُجْزون بما كانوا يقترفون } [ الأنعام : 120 ] فذكَرَ هنالك لِ { يكسبون } مفعولا لأنّ الكسب يعمّ الخير والشرّ ، ولم يذكر هنا ل { يقترفون } مفعولاً لأنّه لا يكون إلاّ اكتساب الشرّ ، ولم يقل : سيُجزْون بما كانوا يكسبون لقصد تأكيد معنى الإثم . يقال : قرف واقترف وقارف . وصيغة الافتعال وصيغة المفاعلة فيه للمبالغة ، وهذه المادة تؤذن بأمر ذميم . وحكوا أنَّه يقال : قَرف فلان لِعِيالِه ، أي كسب ، ولا أحسبه صحيحاً .
وجيء في صلة الموصول بالجملة الاسميّة في قوله : { ما هم مقترفون } للدلالة على تمكّنهم في ذلك الاقتراف وثباتهم فيه .