قوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ، أي : يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء . { وفرحوا بالحياة الدنيا } ، يعني : مشركي مكة أشروا وبطروا ، والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهي ، وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام . { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } أي : قليل ذاهب . قال الكلبي : كمثل السكرجة والقصعة والقدح والقدر ينتفع بها ثم تذهب .
أولئك فرحوا بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم . مع أن الله هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على السواء . ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض ، وهو الذي أعطاهم إياه :
( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) .
{ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } يوسعه ويضيقه . { وفرحوا } أي أهل مكة . { بالحياة الدنيا } بما بسط لهم في الدنيا . { وما الحياة الدنيا في الآخرة } أي في جنب الآخرة . { إلا متاع } إلا متعة لا تدوم كعجالة الراكب وزاد الراعي ، والمعنى أنهم أشروا بما نالوا من الدنيا ولم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع سريع الزوال .
وقوله : { الله يبسط الرزق لمن يشاء } الآية ، لما أخبر عمن تقدمت صفته بأن { لهم اللعنة ولهم سوء الدار } أنحى بعد ذلك على أغنيائهم ، وحقر شأنهم وشأن أموالهم ، المعنى : أن هذا كله بمشيئة الله ، يهب الكافر المال ليهلكه به ، ويقدر على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره .
وقوله : { ويقدر } أي من التقدير ، فهو مناقض يبسط . ثم استجهلهم في قوله : { وفرحوا بالحياة الدنيا } وهي بالإضافة إلى الآخرة متاع ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى . و «المتاع » : ما يتمتع به مما لا يبقى وقال الشاعر : [ الوافر ]
تمتَّعْ يا مشعث إن شيئاً *** سبقت به الممات هو المتاع{[6961]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الله يبسط الرزق لمن يشاء}، يعني يوسع الرزق على من يشاء، {ويقدر}، يعني: ويقتر على من يشاء، {وفرحوا}، يعني: ورضوا {بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}، يعني: إلا قليل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله يوسع على من يشاء من خلقه في رزقه، فيبسط له منه، لأن منهم من لا يصلحه إلا ذلك. "وَيَقْدِرُ "يقول: ويقتر على من يشاء منهم في رزقه وعيشه، فيضيقه عليه، لأنه لا يصلحه إلا الإقتار. "وَفَرِحُوا بالحَياةِ الدّنيْا" يقول تعالى ذكره: وفرح هؤلاء الذين بسط لهم في الدنيا من الرزق على كفرهم بالله ومعصيتهم إياه بما بسط لهم فيها، وجهلوا ما عند الله لأهل طاعته والإيمان به في الآخرة من الكرامة والنعيم. ثم أخبر جلّ ثناؤه عن قدر ذلك في الدنيا فيما لأهل الإيمان به عنده في الآخرة وأعلم عباده قلته، فقال: "وَما الحَياةُ الدّنيا فِي الآخِرَةِ إلاّ مَتاعٌ" يقول: وما جميع ما أعطى هؤلاء في الدنيا من السعة وبسط لهم فيها من الرزق ورغد العيش فيما عند الله لأهل طاعته في الآخرة إلا متاع قليل وشيء حقير ذاهب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ" يرغبهم في ما عنده، ويؤيسهم عما في إيدي الخلق، ويقطع رجاءهم عن ذلك، لأن الذي كان يمنعهم عن الإيمان، ويحملهم على تكذيب الرسل وترك الإجابة، هذه الأموال التي كانت في أيدي أولئك، وبها رأوا دوام الرئاسة والعز والشرف لهم في هذه الدنيا، فقال: هو الباسط لذلك، القادر على أولئك، هو يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء، ليس ذلك إلى الخلق. وذكر أنه يبسط الرزق لمن يشاء من أوليائه وأعدائه، ويقتر على من يشاء من أعدائه وأوليائه، ليعلموا أن التوسع في الدنيا أو البسط لا يدل على الولاية، ولا التقتير والتضييق يدل على العداوة، ليس كما يكون في الشاهد يوسع على الأولياء، ويبسط ويضيق على الأعداء، لأن التوسع في الدنيا والتضييق بحق المحبة، وفي الآخرة بحق الجزاء، ويسوي في المحنة الولي والعدو، ويجمع بينهما في المحنة، ويفرق بينهما في الجزاء...
ثم الفرح يحتمل وجوها: يحتمل: "وفرحوا بالحياة الدنيا" أي رضوا بها، كقوله: (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) [يونس: 7] أو (وفرحوا بالحياة الدنيا) سرورا بها...
أو يكون قوله: (وفرحوا) أي أشروا، وبطروا كقوله تعالى: (إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) [القصص: 76] والفرح هو الأشر أو البطر، والله أعلم.. "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع"... عند متاع الآخرة لأن متاع الآخرة ونعيمها دائم متصل غير منقطع، لا يشوبه آفة ولا حزن ولا خوف، ومتاع الدنيا منقطع غير متصل مشوب بالآفات والأحزان...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الله يَبْسُطُ الرزق} أي الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره، وهو الذي بسط رزق أهل مكة ووسعه عليهم {وَفَرِحُواْ} بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة، وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما أخبر عمن تقدمت صفته بأن {لهم اللعنة ولهم سوء الدار} أنحى بعد ذلك على أغنيائهم، وحقر شأنهم وشأن أموالهم، المعنى: أن هذا كله بمشيئة الله، يهب الكافر المال ليهلكه به، ويقدر على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره. {ويقدر} أي من التقدير، فهو مناقض يبسط. ثم استجهلهم في قوله: {وفرحوا بالحياة الدنيا} وهي بالإضافة إلى الآخرة متاع ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى. و «المتاع»: ما يتمتع به مما لا يبقى...
اعلم أنه تعالى لما حكم على من نقض عهد الله في قبول التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل: لو كانوا أعداء الله لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا، فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه يبسط الرزق على البعض ويضيقه على البعض ولا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعا عليه دون المؤمن، ويوجد المؤمن مضيقا عليه دون الكافر، فالدنيا دار امتحان... وأما قوله: {وفرحوا بالحياة الدنيا} فهو راجع إلى من بسط الله له رزقه، وبين تعالى أن ذلك لا يوجب الفرح، لأن الحياة العاجلة بالنسبة إلى الآخرة كالحقير القليل بالنسبة إلى ما لا نهاية له...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فرح هؤلاء الكفار بما أوتوا في الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا... ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة فقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ}... وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع" وأشار بالسبابة. ورواه مسلم في صحيحه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم الحث العظيم على الإنفاق، وأشير إلى أنه من أوثق الأسباب في الوصلة لجميع أوامر الله، وختم بأن للكافر البعد والطرد عن كل خير والسوء، كان موضع أن يقول الكفار: ما لنا يوسع علينا مع بعدنا ويضيق على المؤمن مع وصله واتصاله، وما له لا يبسط له رزقه ليتمكن من إنفاذ ما أمر به إن كان ذلك حقاً؟ فقيل: {الله} أي الذي له الكمال كله {يبسط الرزق} ودل على تمام قدرته سبحانه وتعالى بقوله -جلت قدرته -: {لمن يشاء} فيطيع في رزقه أو يعصي {ويقدر} على من يشاء فيجعل رزقه بقدر ضرورته فيصبر أو يجزع لِحكَم دقت عن الأفكار، ثم يجعل ما للكافر سبباً في خذلانه، وفقر المؤمن موجباً لعلو شأنه، فليس الغنى مما يمدح به، ولا الفقر مما يذم به، وإنما يمدح ويذم بالآثار. ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من أخلصه الله وهم أقل من القليل، قال عائباً لمن اطمأن إليها: {وفرحوا} أي فبسط لهؤلاء الرزق فبطروا وكفروا وفرحوا {بالحياة الدنيا} أي بكمالها...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
لما ذكر الله سبحانه عاقبة المشركين بقوله: {وَلَهُمْ سُوء الدار} كان لقائل أن يقول: قد نرى كثيراً منهم قد وفر الله له الرزق وبسط له فيه، فأجاب عن ذلك بقوله: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} فقد يبسط الرزق لمن كان كافراً، ويقتره على من كان مؤمناً ابتلاءً وامتحاناً، ولا يدلّ البسط على الكرامة ولا القبض على الإهانة...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
المعنى أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة، والحال أن ما أشروا به في جنب ما أعرضوا عنه نزر النفع سريع النفاد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عما يهجس في نفوس السامعين من المؤمنين والكافرين من سماع قوله: {أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} المفيد أنهم مغضوب عليهم، فأما المؤمنون فيقولون: كيف بَسط الله الرزق لهم في الدنيا فازدادوا به طغياناً وكفراً وهلا عذبهم في الدنيا بالخصاصة كما قدر تعذيبهم في الآخرة، وذلك مثل قول موسى عليه السلام {ربّنَا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك} [سورة يونس: 88]، وأما الكافرون فيسخرون من الوعيد مزدهين بما لهم من نعمة. فأجيب الفريقان بأن الله يشاء بسط الرزق لبعض عباده ونقصه لبعض آخر لحكمةٍ متصلة بأسباب العيش في الدنيا، ولذلك اتّصال بحال الكرامة عنده في الآخرة. ولذلك جاء التعميم في قوله: {لمن يشاء}، ومشيئته تعالى وأسبابها لا يطلع عليها أحد.
وأفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {الله يبسط} تقويةً للحكم وتأكيداً، لأن المقصود أن يعلمه الناس ولفت العقول إليه...
والبسط: مستعار للكثرة وللدوام. والقَدْر: كناية عن القلة.
ولما كان المقصود الأول من هذا الكلام تعليم المسلمين كان الكلام موجهاً إليهم.
وجيء في جانب الكافرين بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم أقل من أن يفهموا هذه الدقائق لعنجهية نفوسهم فهم فرحُوا بما لهم في الحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة، فالفرح المذكور فرحُ بَطَر وطغيان كما في قوله تعالى في شأن قارون: {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} [سورة القصص: 76]، فالمعنى فرحوا بالحياة الدنيا دون اهتمام بالآخرة. وهذا المعنى أفادهُ الاقتصار على ذكر الدنيا في حين ذكر الآخرة أيضاً بقوله: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}.
والمراد بالحياة الدنيا وبالآخرة نعيمهما بقرينة السياق، فالكلام من إضافة الحكم إلى الذات والمراد أحوالها.
و {في} ظرف مستقر حال من {الحياة الدنيا}. ومعنى {في} الظرفية المجازية بمعنى المقايسة، أي إذا نُسبت أحوال الحياة الدنيا بأحوال الآخرة ظهر أن أحوال الدنيا متاعٌ قليل، وتقدم عند قوله: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} في سورة براءة (38).
والمتاع: ما يتمتع به وينقضي. وتنكيره للتقليل كقوله: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [سورة آل عمران: 196 -197].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المعنى في تصدير الآية بلفظ الجلالة هو أن الله تعالى هو الذي بسط لكم قدر الرزق للضعفاء والفقراء فصبروا فحق لهم التكريم وحسن الجزاء، ولا يستوي المحسن والمسيء، ولا الأعمى والبصير...
وإن أولئك المشركين بسط الله تعالى لهم في الرزق فلم يشكروا؛ ولأن الشكر يقتضي أن يحسوا بفضل المنعم، لا أن يحس فقط بالاستمتاع بما أعطى، والاستطالة به على الناس وإن ذلك ينشأ من الفرح ببسط الرزق، لا ينشأ من القيام بحق الشكر؛ لأن إحساس المؤمن بأنها ابتلاء، كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء 35]، وإحساس الكافر بأنها متعة ينتهزها...
ففرحوا بها فرحا أدى إلى أن بطروا معيشتهم، وغمطوا الناس حقوقهم، وإن فرحهم بالحياة الدنيا لم يكن فرحا يذوقون حلوها ومرها، بل فرح استعلاء واستغواء لا يلاحظون إلا أنها متعتهم يستكبرون بها على غيرهم، وينسون في سبيل ذلك كل حق عليهم، ولا يعرفون أن المتعة حق يتبعه واجب...