قوله تعالى : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } . قرأ أهل المدينة والشام : وأوصى بالألف ، وكذلك هو في مصاحفهم ، وقرأ الباقون : ووصى مشدداً ، وهما لغتان مثل نزل ، معناه ووصى بها إبراهيم بنيه ووصى يعقوب بنيه ، قال الكلبي ومقاتل : يعني بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله ، قال أبو عبيدة :
إن شئت رددت الكناية إلى الملة لأنه ذكر ملة إبراهيم ، وإن شئت رددتها إلى الوصية : أي وصى إبراهيم بنيه الثمانية إسماعيل وأمه هاجر القبطية ، وإسحاق وأمه سارة ، وستة أمهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية . تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة ويعقوب ، سمي بذلك لأنه والعيص كانا توأمين ، فتقدم عيص في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذاً بعقبه ، قال ابن عباس ، وقيل : سمي يعقوب لكثرة عقبه يعني : ووصى أيضاً يعقوب بنيه الاثنى عشر .
قوله تعالى : { يا بني } . معناه أن يا بني .
قوله تعالى : { إن الله اصطفى } . اختار .
قوله تعالى : { لكم الدين } . أي دين الإسلام .
قوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } . مؤمنون وقيل : مخلصون وقيل : مفوضون والنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت ، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام ، داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا وأنتم مسلمون ، وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال : إلا وأنتم مسلمون . أي محسنون بربكم الظن .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول : " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل " .
هذه هي ملة إبراهيم . . الإسلام الخالص الصريح . . ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه ، وجعلها وصيته في ذريته ، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه . ويعقوب هو إسرائيل الذي ينتسبون إليه ، ثم لا يلبون وصيته ، ووصية جده وجدهم إبراهيم !
ولقد ذكر كل من إبراهيم ويعقوب بنيه بنعمة الله عليهم في اختياره الدين لهم :
( يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ) . .
فهو من اختيار الله . فلا اختيار لهم بعده ولا اتجاه . وأقل ما توجبه رعاية الله لهم ، وفضل الله عليهم ، هو الشكر على نعمة اختياره واصطفائه ، والحرص على ما اختاره لهم ، والاجتهاد في ألا يتركوا هذه الأرض إلا وهذه الأمانة محفوظة فيهم :
( فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . .
وها هي ذي الفرصة سانحة ، فقد جاءهم الرسول الذي يدعوهم إلى الإسلام ، وهو ثمرة الدعوة التي دعاها أبوهم إبراهيم . .
{ ووصى بها إبراهيم بنيه } التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة ، وأصلها الوصل يقال : وصاه إذا وصله ، وفصاه : إذا فصله ، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى ، والضمير في بها للملة ، أو لقوله أسلمت على تأويل الكلمة ، أو الجملة وقرأ نافع وابن عامر وأوصى والأول أبلغ { ويعقوب } عطف على إبراهيم ، أي ووصى هو أيضا بها بنيه . وقرئ بالنصب على أنه ممن وصاه إبراهيم { يا بني } . على إضمار القول عند البصريين ، متعلق بوصى عند الكوفيين لأنه نوع منه ونظيره :
رجلان من ضبة أخبرانا *** أنا رأينا رجلا عريانا
بالكسر ، وبنو إبراهيم كانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان . وقيل : ثمانية . وقيل : أربعة عشر : وبنو يعقوب إثنا عشر : روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وبولون وتفتوني ودون وكودا وأوشير وبنيامين ويوسف { إن الله اصطفى لكم الدين } دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، والمقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا ، والأمر بالثبات على الإسلام كقولك : لا تصل إلا وأنت خاشع ، وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن من حقه أن لا يحل بهم ، ونظيره في الأمر مت وأنت شهيد . وروي أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت .
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }( 132 )
وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى » ، وقرأ الباقون { ووصى } ، والمعنى واحد ، إلا أن وصى يقتضي التكثير ، والضمير في { بها } عائد على كلمته التي هي { أسلمت لرب العالمين } ، وقيل : على الملة المتقدمة ، والأول أصوب لأنه أقرب مذكور( {[1282]} ) ، وقرأ عمرو بن فائد الأسواري «ويعقوبَ » بالنصب على أن يعقوب داخل فيمن أوصى( {[1283]} ) ، واختلف في إعراب رفعه ، فقال قوم من النحاة : التقدير ويعقوب أوصى بنيه أيضاً ، فهو عطف على { إبراهيم } ، وقال بعضهم : هو مقطوع منفرد بقوله { يا بني } ، فتقدير الكلام ويعقوب قال يا بني( {[1284]} ) ، و { اصطفى } هنا معناه تخير صفة الأديان ، والألف واللام في { الدين } للعهد( {[1285]} ) ، لأنهم قد كانوا عرفوه ، وكسرت { إنّ } بعد
{ أوصى } لأنها بمعنى القول ، ولذلك سقطت «إن » التي تقتضيها «أوصى » في قوله «أن يا بني » ، وقرأ ابن مسعود والضحاك «أن يا بني » بثبوت أن .
وقوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } إيجاز بليغ ، وذلك أن المقصود منه أمرهم بالإسلام والدوام عليه( {[1286]} ) ، فأتى ذلك بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظاً وتذكيراً بالموت ، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى ؟ فإذا أمر بأمر( {[1287]} ) لا يأتيه الموت إلا وهو عليه ، فقد توجه من وقت الأمر دائباً لازماً( {[1288]} ) ، وحكى سيبويه فيما يشبه هذا المعنى قولهم : لا أرينك ها هنا( {[1289]} ) ، وليس إلى المأمور أن يحجب إدراك الأمر عنه ، فإنما المقصود ، اذهب وزل عن هاهنا ، فجاء بالمقصود بلفظ يزيد معنى الغضب والكراهية ، و { أنتم مسلمون } ابتداء وخبر في موضع الحال .