وبمناسبة الحديث عن الحياة في الأرض وعن الرزق والبسط فيه والقبض ، يضع أمامه الميزان الدقيق للقيم كلها . فإذا الحياة الدنيا بأرزاقها ومتاعها لهو ولعب حين تقاس بالحياة في الدار الآخرة :
( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ، لو كانوا يعلمون ) . .
فهذه الحياة الدنيا في عمومها ليست إلا لهوا ولعبا حين لا ينظر فيها إلى الآخرة . حين تكون هي الغاية العليا للناس . حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة . فأما الحياة الآخرة فهي الحياة الفائضة بالحيوية . هي( الحيوان )لشدة ما فيها من الحيوية والامتلاء .
والقرآن لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الحياة الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيدا . إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه . إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع ، والوقوف فيه عند حدود الله . كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له ، يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه ! والمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح . فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن ؛ ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها ، مالكا لحريته معتدلا في نظرته : الدنيا لهو ولعب ، والآخرة حياة مليئة بالحياة .
يقول تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها ، وأنها لا دوام لها ، وغاية ما فيها لهو ولعب : { وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } أي : الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء ، بل هي مستمرة أبد الآباد .
وقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : لآثروا ما يبقى على ما يفنى .
وصف الله تعالى { الدنيا } في هذه الآية بأنها { لهو ولعب } أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى ، فأما ما كان لله فهو من الآخرة ، وأما أمور الدنيا التي هي زائدة على الضروري به قوام العيش والقوة على الطاعات فإنما هو { لهو ولعب } ، وتأمل ذلك في المطاعم والملابس والأقوال والمكتسبات وغير ذلك ، وانظر أن حالة الغني والفقير في الأمور الضرورية واحدة كالتنفس في الهواء وسد الجوع وستر العورة وتوقي الحر والبرد وهذه عظم أمر العيش ، و { الحيوان } و { الحياة } بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر كالهيمان ونحوه{[9275]} ، والمعنى لا موت فيها قاله مجاهد وهو حسن ، ويقال أصله حييان فبدلت إحداهما واواً لاجتماع المثلين .
هذا الكلام مبلَّغ إلى الفريقين اللذين تضمنهما قوله تعالى : { بل أكثرهم لا يعقلون } [ العنكبوت : 63 ] فإن عقلاءهم آثروا باطل الدنيا على الحق الذي وضح لهم ، ودهماءهم لم يشعروا بغير أمور الدنيا ، وجميعهم أنكروا البعث فأعقب الله ما أوضحه لهم من الدلائل بأن نبههم على أن الحياة الدنيا كالخيال وأن الحياة الثانية هي الحياة الحق . والمراد بالحياة ما تشتمل عليه من الأحوال وذلك يسري غلى الحياة نفسها .
واللهو : ما يلهو به الناس ، أي يشتغلون به عن الأمور المكدرة أو يعْمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال .
واللعب : ما يقصد به الهزل والانبساط . وتقدم تفسير اللعب واللهو ووجه حصر الحياة الدنيا فيهما عند قوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } في سورة الأنعام [ 32 ] . والحصر : ادعائي كما تقدم . وقد زادت هذه الآية بتوجيه اسم الإشارة إلى الحياة وعهي إشارة تحقير وقلة اكتراث ، كقول قيس بن الخطيم مشيراً إلى الموت :
متى يأت هذا الموتُ لا يُلف حَاجة *** لنفسيَ إلا قَد قضيتُ قضاءها
ولم توجه الإِشارة إلى الحياة في سورة الأنعام . ووجه ذلك أن هذه الآية لم يتقدم فيها ما يقتضي تحقير الحياة فجيء باسم الإِشارة لإفادة تحقيرها ، وأما آية سورة الأنعام فتقدم قوله : { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما قرطنا فيها } [ الأنعام : 31 ] فذُكر لهم في تلك الآية ما سيظهر لهم إذا جاءتهم الساعة من ذهاب حياتهم الدنيا سُدى . وأمر تقديم ذكر اللهو هنا وذكر اللعب في سورة الأنعام فلأن آية سورة الأنعام لم تشتمل على اسم إشارة يقصد منه تحقير الحياة الدنيا فكان الابتداء بأنها لعب مشيراً إلى تحقيرها لأن اللعب أعرق في قلة الجدوى من اللهو .
ولما أشير في هذه الآية إلى الحياة الآخرة في قوله { فأحيا به الأرض من بعد موتها } [ العنكبوت : 63 ] زاده تصريحاً بأن الحياة الآخرة هي الحياة الحق فصيغ لها وزن الفعلان الذي هو صيغة تنبئ عن معنى التحرك توضيحاً لمعنى كمال الحياة بقدر المتعارف ، فإن التحرك والاضطراب أمارة على قوة الحيوية في الشيء مثل الغليان واللهبان . وهم قد جهلوا الحياة الآخرة من أصلها فلذلك قالوا { لو كانوا يعلمون } . وجواب { لو } محذوف دليله ما تقدم ، أو هو الجواب مقدّماً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} يعني وباطلا {وإن الدار الآخرة} يعني الجنة {لهي الحيوان} يقول: لهي دار الحياة لا موت فيها {لو كانوا يعلمون} ولكنهم لا يعلمون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَما هَذِهِ الحَياةُ الدّنْيا" التي يتمتع منها هؤلاء المشركون "إلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ "يقول: إلاّ تعليل النفوس بما تلتذّ به، ثم هو مُنْقَضٍ عن قريب، لا بقاء له ولا دوام.
"وإنّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ" يقول: وإن الدار الآخرة لفيها الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها... وقوله: "لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ" يقول: لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن ذلك كذلك، لقَصّروا عن تكذيبهم بالله، وإشراكهم غيره في عبادته، ولكنهم لا يعلمون ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كقوله: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة} [الحديد: 20] ولو كان الأمر على ظاهر ما نطق به الكتاب دون معان تودع فيه وحكمة تجعل فيه على ما يحمله بعض الناس، لكان لأهل الإلحاد في ذلك مطعن، لأنه يقول: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} وهو خلقها، فيقولون: لم خلقها لهوا ولعبا؟ وهو خلقها، ولهم دعوى التناقض فيه حين قال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا} [ص: 27] وقال في آية أخرى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} [الدخان: 38]. فلو جمع بين هذا وبين الأول، وهو في الظاهر متناقض؛ إذ يذكر في بعضها أنه لم يخلقهما وما بينهما باطلا لعبا، ويذكر في بعضها أن الحياة الدنيا لهو ولعب، وهو خلقها. لكن تأويل قوله: {وما هذه الحياة الدنيا} على ما تقدرون أنتم وعلى ما عندكم {إلا لهو ولعب}.
فأما ما عند أهل التوحيد وما في تقديرهم فهي حكمة وحق. ثم هو ما ذكر من اللهو واللعب عندهم يخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم رأوا أنه خلق الإنسان، وجعل بدأه من نطفة، ثم حولها إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى الإنسان الذي صور إلى آخر ما حوله. فلا يحتمل أن يخلقه، ويحوله من حال إلى الأحوال التي ذكر، ثم يفنيه، بلا عاقبة، تجعل له، ولا منفعة، فيكون كما ذكر: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} [النحل: 92] صير نقضها الغزل من بعد إحكامها إياه بلا انتفاع به لهوا ولعبا. فعلى ذلك خلق الحياة الدنيا وخلق ما فيها من العالم بعد إحكامه وتحويله حالا بعد حال أو تحويلا بعد تحويل وإحكاما بعد إحكام للفناء خاصة ما يقدر أولئك الكفرة بلا عاقبة تجعل لهم، أو منفعة لهو ولعب وسفه وباطل على ما ظن أولئك وقدروه.
فأما ما في تقدير أهل التوحيد وأهل الإيمان من العاقبة لهم فهو حكمة وحق.
والثاني: معنى اللهو واللعب الذي ذكر على ما عندهم، هو أن الجمع والتسوية بين العدو والولي وبين العاصي والمطيع وبين المخالف والموافق سفه باطل. وقد سوى بينهم في هذه الدنيا، وأشركهم جميعا في نعيمها وسعتها وشدتها وخيرها وشرها؛ يتمتع الولي فيها كما يتمتع العدو، ويبتلى فيها المطيع كما يبتلى العاصي. فلو لم تكن دار أخرى، فيها يفرق بين الولي والعدو وبين المطيع والعاصي لكان خلقه إياهم في الحياة الدنيا سفها وباطلا؛ إذ سوى بينهم، وأشركهم جميعا في هذه.
ويحتمل أن تكون الحياة الدنيا على ما اتخذوها هم، وعملوا فيها، لهوا ولعبا، وأن تقابل الحياة الدنيا بحياة الآخرة، خلقت الحياة الدنيا فانية منقطعة، وخلقت حياة الآخرة باقية دائمة. فهو كما قال: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء: 77] أي متاع الدنيا قليل عند متاع الآخرة، لأن متاع الدنيا فان منقطع ومتاع الآخرة دائم باق.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... لأنها تزول كما يزول اللهو واللعب...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
اللهو هو: الاستمتاع بلذات الدنيا، واللعب: العبث، سميت بهما لأنها فانية...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هذه} فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة. يريد: ما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون.
{وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان} أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة.
{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها... والحيوان: مصدر حي...
وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، كالنزوان والنغصان واللهبان، وما أشبه ذلك. والحياة: حركة، كما أن الموت سكون، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة، مبالغة في معنى الحياة، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وصف الله تعالى {الدنيا} في هذه الآية بأنها {لهو ولعب} أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى، فأما ما كان لله فهو من الآخرة، وأما أمور الدنيا التي هي زائدة على الضروري به قوام العيش والقوة على الطاعات فإنما هو {لهو ولعب}، وتأمل ذلك في المطاعم والملابس والأقوال والمكتسبات وغير ذلك، وانظر أن حالة الغني والفقير في الأمور الضرورية واحدة كالتنفس في الهواء وسد الجوع وستر العورة وتوقي الحر والبرد وهذه عظم أمر العيش...
لما بين أنهم يعترفون بكون الله هو الخالق وكونه هو الرزاق وهم يتركون عبادته ولا يتركونها إلا لزينة الحياة الدنيا بين أن ما يميلون إليه ليس بشيء بقوله: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو}. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما الفرق بين اللهو واللعب، حتى يصح عطف أحدهما على الآخر؟ فنقول الفرق من وجهين؛
أحدهما: أن كل شغل يفرض، فإن المكلف إذا أقبل عليه لزمه الإعراض عن غيره، ومن لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى، فالذي يقبل على الباطل للذة يسيرة زائلة فيه يلزمه الإعراض عن الحق، فالإقبال على الباطل لعب، والإعراض عن الحق لهو، فالدنيا لعب أي إقبال على الباطل، ولهو أي إعراض عن الحق.
الثاني: هو أن المشتغل بشيء يرجح ذلك الشيء على غيره لا محالة حتى يشتغل به، فإما أن يكون ذلك الترجيح على وجه التقديم بأن يقول أقدم هذا وذلك الآخر آتي به بعده، أو يكون على وجه الاستغراق فيه والإعراض عن غيره بالكلية، فالأول لعب والثاني لهو... فالدنيا للبعض لعب يشتغل به ويقول بعد هذا الشغل أشتغل بالعبادة والآخرة، وللبعض لهو يشتغل به وينسى الآخرة بالكلية.
المسألة الثانية: قال الله تعالى في سورة الأنعام: {وما الحياة الدنيا} ولم يقل وما هذه الحياة وقال ههنا: {وما هذه} فنقول: لأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا، حيث قال تعالى: {فأحيا به الأرض من بعد موتها} فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال: {يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال: {وما الحياة الدنيا}.
المسألة الثالثة: قال هناك: {إلا لعب ولهو} وقال ههنا: {إلا لهو ولعب} فنقول: لما كان المذكور هناك من قبل الآخرة وإظهارهم للحسرة، ففي ذلك الوقت يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد، وأما ههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهم إلا لمانع يمنعه من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها، ولعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلا، فكان ههنا الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.
المسألة الرابعة: قال هناك: {وللدار الآخرة خير} وقال ههنا: {وإن الدار الآخرة لهى الحيوان} فنقول: لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى رادع قوي فقال {الآخرة خير}، ولما كان ههنا الحال حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى رادع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة، وهذا كما أن العاقل إذا عرض عليه شيئان فقال في أحدهما هذا خير من ذلك يكون هذا ترجيحا فحسب، ولو قال هذا جيد وهذا الآخر ليس بشيء يكون ترجيحا مع المبالغة فكذلك ههنا بالغ لكون المكلف متوغلا فيها.
المسألة الخامسة: قال هناك: {خير للذين يتقون} ولم يقل ههنا إلا {لهي الحيوان}، لأن الآخرة خير للمتقي فحسب أي المتقي عن الشرك، وأما الكافر فالدنيا جنته فهي خير له من الآخرة، وأما كون الآخرة باقية فيها الحياة الدائمة فلا يختص بقوم دون قوم.
المسألة السادسة: كيف أطلق الحيوان على الدار الآخرة مع أن الحيوان نام مدرك؟ فنقول الحيوان مصدر حي كالحياة لكن فيها مبالغة ليست في الحياة والمراد بالدار الآخرة هي الحياة الثانية، فكأنه قال الحياة الثانية هي الحياة المعتبرة أو نقول لما كانت الآخرة فيها الزيادة والنمو كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وكانت هي محل الإدراك التام الحق كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك.
المسألة السابعة: قال في سورة الأنعام: {أفلا تعقلون} وقال ههنا: {لو كانوا يعلمون} وذلك لأن المثبت هناك كون الآخرة خيرا وأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت ههنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة، وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة الحديث عن الحياة في الأرض وعن الرزق والبسط فيه والقبض، يضع أمامه الميزان الدقيق للقيم كلها. فإذا الحياة الدنيا بأرزاقها ومتاعها لهو ولعب حين تقاس بالحياة في الدار الآخرة: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون).. فهذه الحياة الدنيا في عمومها ليست إلا لهوا ولعبا حين لا ينظر فيها إلى الآخرة. حين تكون هي الغاية العليا للناس. حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة. فأما الحياة الآخرة فهي الحياة الفائضة بالحيوية. هي (الحيوان) لشدة ما فيها من الحيوية والامتلاء.
والقرآن لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الحياة الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيدا. إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه. إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع، والوقوف فيه عند حدود الله. كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له، يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه! والمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح. فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن؛ ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها، مالكا لحريته معتدلا في نظرته: الدنيا لهو ولعب، والآخرة حياة مليئة بالحياة...
الحياة: نعرفها بأنها ما يكون في الإنسان الأعلى في الوجود من حس وحركة، فإذا انتهى حسه وحركته لم تعد له حياة، وهذه الحياة موصوفة هنا بأوصاف ثلاثة: دنيا ولهو ولعب، كلمة دنيا تدل على أن مقابلها عليا فساعة تسمع هذا الوصف "الحياة الدنيا "فاعلم أن هذا الوصف ما جاء إلا ليميزها عن حياة أخرى، تشترك معها في أنها حياة لله إلا أنها حياة عليا، هذه الحياة العليا هي التي قال عنها ربنا- تبارك وتعالى- "الدار الآخرة". وإن كنا قد عرفنا الحياة الدنيا بأنها الحس والحركة في الإنسان، فالواقع عند التقنين أن لكل شيء في الوجود حياة تناسب مهمته، بدليل قوله تعالى حين ينهي هذه الحياة: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص 88) فما يقال له شيء لا بد أن يطرأ عليه الهلاك، والهلاك تقابله الحياة، بدليل قوله سبحانه: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (الأنفال 42) فالحياة ضد الهلاك، إلا أنك تعرف الحياة عندك بالحس والحركة، وكذلك الحياة في كل شيء بحسبه، حتى في الجماد حياة نلحظها في أن الجبل يتكون من أصناف كثيرة من الحجارة، ترقى مع الزمن من حجارة إلى أشياء أخرى أعلى من الحجارة وأثمن، وما دامت يطرأ عليها هذا التغيير فلا بد أن فيها حياة وتفاعلا لا ندركه نحن. إذن: فكل شيء له حياة، لكن الآفة أننا نريد حياة كالتي فينا نحن، والحق- تبارك وتعالى – يصف الدار الآخرة بأنها {الحيوان} وفرق بين الحياة والحيوان، الحياة هي هذه التي نحياها في الدنيا يحياها الأفراد، ويحياها النبات، ثم تؤول إلى الموت والفناء، أما الحيوان فيعني الحياة الأرقى في الآخرة؛ لأنها حياة باقية حياة حقيقية. والحق –سبحانه وتعالى- أعطانا صورة للحياة الدنيا، الحياة المادية في قوله تعالى عن آدم {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} (الحجر 29) فمن الطين خلق آدم، وسواه ونفخ فيه من روحه تعالى، فدبت فيه الحياة المادية. لكن هناك حياة أخرى أسمى من هذه يقول الله عنها: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال 24) فكيف يخاطبكم بذلك وهم أحياء؟ لا بد أن المراد حياة أخرى غير هذه الحياة المادية، المراد حياة الروح والقيم والمنهج الذي يأتي به رسول الله. لذلك سمى المنهج روحا {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى 52) وسمى الملك الذي نزل به روحا: {نزل به الروح الأمين} (الشعراء 193) إذن: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أي: الحياة الحقيقية التي لا تفوتها ولا تفوتك، ولا يفارقك نعيمها، ولا ينغصه عليك شيء، كما أن التنعم في الدنيا على قدر إمكاناتك وأسبابك، أما في الآخرة فالنعيم على قدر إمكانات المنعم سبحانه وتعالى. ثم يأتي وصف الدنيا بأنها لهو ولعب، وهما حركتان من حركات جوارح الإنسان، لكنها حركة لا مقصد لها إلا الحركة في ذاتها دون هدف منها؛ لذلك نقول لمن يعمل عملا لا فائدة منه" عبث". إذن: اللهو واللعب عبث، لكن يختلفان من ناحية أخرى، فاللعب حركة لا فائدة منها، لكنه لا يصرفك عن واجب يعطي فائدة، كالولد حين يلعب، فاللعب لا يصرفه عن شيء إذن: فاللعب لمن لم يبلغ، أما البالغ المكلف فاللعب في حقه يسمى لهوا، لأنه كلف فترك ما كلف به إلى ما لم يكلف به، ولها عن الواجب، ومنه: لهو الحديث. فقوله تعالى {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} أي: إن جردت عن الحياة الأخرى حياة القيم التي تأتي باتباع المنهج. وقوله: {لو كانوا يعلمون} يحتمل أن تكون الجملة هنا امتناعية يعني: امتنع عليهم بها، أو تكون تمنيا يعني: يا ليتهم يعلمون هذه الحقيقة، حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة؛ لأنهم لو علموها لأقبلوا على منهج ربهم لينالوا كل هذا العطاء الممتد، ولسلكوا طريق الإيمان بدل طريق الكفر، فكأن المعنى أنهم لم يعرفوا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياساً إلى الحياة الأُخرى الخالدة، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني، فيقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون). كم هو تعبير بليغ وبديع! لأنّ «اللهو» معناه الانشغال.. أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية. أمّا «اللعب» فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي، والهدف الخيالي أيضاً، ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثّالث قائداً للجيش، والرابع السارق، والخامس يمثل القافلة وهكذا، وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته، وكأن المسألة لا تعدوا طيفاً.. أو خيالا.. فلا أثر ولا خبر. فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة، مبيناً أن الحياة الدنيا هي نوع من الانشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم، وبعد أيّام يتفرقون ويختفون تحت التراب، ثمّ يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان. أمّا الحياة الحقيقية التي لا فناء بعدها، ولا ألم فيها، ولا قلق ولا خوف ولا تضاد ولا تزاحم، فهي الحياة الآخرة فحسب... لو كان الإنسان يعرف ذلك، وكان أهلا للتدقيق والتحقيق! أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها، ويأنسون بها، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة. وينبغي الالتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» على زنة «خفقان» هو الحياة، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً.. وهذا التعبير (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى، لا في هذه الدار الدنيا فكأنّ الحياة في الأُخرى تفور من جميع أبعادها، ولا شيء هناك إلاّ الحياة. وبديهي أن القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأُخرى قياساً صريحاً وواضحاً... وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً...