نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَهۡوٞ وَلَعِبٞۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (64)

ولما تبين بهذا الآيات أن الدنيا مبنية على الفناء والزوال ، والقلعة والارتحال ، وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال تعالى مشيراً بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون : { وما هذه الحياة الدنيا } فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى أن الاعتراف بهذا الاسم كافٍ في الإلزام بالاعتراف بالأخرى .

ولما كان مقصود السورة الحث على الجهاد والنهي عن المنكر ، وكان في معرض سلب العقل عنهم ، قدم اللهو لأن الإعراض عنه يحسم مادة الشر فإنه الباعث عليه فقال : { إلا لهو } أي شيء يلهي عما ينفع { ولعب } يشتغل به صبيان العقول ، وكل غافل وجهول ، فإن اللهو كل شيء من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء وغيره ، فيحصل به فرح وزيادة سرور ، فيكون سبباً للغفلة والذهول والنسيان والشغل عن استعمال العقل في اتباع ما ينجي في الآخرة فينشأ عنه الضلال - على ما أشارت إليه آية لقمان

{ ليشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله }[ آية : 6 ] ومنه اللعب ، وهو فعل ما يزيد النفس في دنياها سروراً كالرقص بعد السماع وينقضي بسرعة لأنه ضد الجد ومثل الهزل ، وهو كل شيء سافل ، وكل باطل يقصد به زيادة البسط والترويح والتمادي في قطع الزمان فيما يشتهي من غير تعب ، واللعبة - بالضم : التمثال ، وما يلعب به كالشطرنج ، والأحمق يسخر به ، ولعب لعباً : مرح ، وفي الأمر والدين : استخف به .

ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت ، أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها فقال : { وإن الدار الآخرة لهي } أي خاصة { الحيوان } أي الحياة التامة الباقية العامة الوافية نفسها من حيث أنه لا موت فيها ولا فناء لشيء من الأشياء ، ولذلك اختير هذا البناء الدال على المبالغة ، وحركته مشعرة بما في الحياة من مطلق الحركة والاضطراب ، فلا انقضاء لشيء من لعبها ولا لهواها الذي لا يوافق ما في الدنيا إلا في الصورة فقط لا في المعنى ، لأنه ليس فيها شيء سافل لا في الباعث ولا في المبعوث إليه ، بل كل ذلك بالتسبيح والتقديس وما يترتب عليه من المعارف والبسط والترويح ، والانشراح والأنس والتفريح .

ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كلتيهما فأنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها ، فعدوا الدنيا وجوداً دائماً على هذا الحالة والآخرة عدماً ، لا وجود لها بوجه ، قال : { لو كانوا } أي كوناً هو كالجبلة { يعلمون* } أي لهم علم ما لم يغلطوا في واحدة منهما فلم يركبوا مع إيثارهم للحياة وشدة نفرتهم من الموت ، لا عتقادهم أن لا قيام بعده إلى الدنيا ، مع أن أصلها عدم الحياة الذي هو الموتان .