معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } والصديق : الكثير الصدق ، قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق وتلا هذه الآية . قال الضحاك : ثمانية نفر من هذه الأمة ، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر ، وعلي ، وزيد ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وحمزة ، وتاسعهم عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته . { والشهداء عند ربهم } اختلفوا في نظم هذه الآية ، منهم من قال : هي متصلة بما قبلها ، والواو واو النسق ، وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين . قال الضحاك : هم الذين سميناهم . قال مجاهد : كل مؤمن صديق شهيد ، وتلا هذه الآية . وقال قوم : تم الكلام عند قوله : { هم الصديقون } ثم ابتدأ فقال : { والشهداء عند ربهم } والواو واو الاستئناف ، وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة . ثم اختلفوا فيهم فقال قوم : هم الأنبياء الذين يشهدون على أمم يوم القيامة ، يروى ذلك عن ابن عباس هو قول مقاتل ابن حيان . وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله . { لهم أجرهم } بما عملوا من العمل الصالح ، { ونورهم } على الصراط ، { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

16

ومقام الصديقين مقام رفيع كما تصوره الأحاديث النبوية الشريفة . ومع علو هذا المقام فهو بفضل الله ميسور لمن أراد ، وليس وقفا على أفراد ولا على طائفة . فكل من يحقق إيمانه بالله ورسله يطمع في هذا المقام الرفيع ، ولا حجر على فضل الله :

( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) . .

وتلك خاصية هذا الدين وميزته . إنه طريق مفتوح لجميع البشر ، وأفق يتطلع إليه الجميع ، ليس فيه احتكار للمقامات ، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم . وليس إلا العمل يصعد بصاحبه إلى أرقى الدرجات . إنه دين لا مجال فيه للطبقات المحفوظة المقام !

روى الإمام مالك في كتابه " الموطأ " عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم " . . قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم . قال : " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " . .

فهذه لمسة الإيمان . فأما لمسة الفداء فقوله بعد ذلك :

( والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ) . .

والحديث عن مقام الشهداء ورد مرات في القرآن ، وتواترت به الأحاديث النبوية . فهذا الدين لا يقوم بغير حراسة ؛ ولا يتحقق في الأرض بغير جهاد . جهاد لتأمين العقيدة وتأمين الدعوة وحماية أهله من الفتنة وشريعته من الفساد . ومن ثم كان للشهداء في سبيل الله - وهم وحدهم الذين يسمون الشهداء - مقامهم ، وكان لهم قربهم من ربهم . القرب الذي يعبر عنه بأنهم ( عند ربهم ) . .

جاء في الصحيحين : " أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل . فاطلع عليهم ربهم اطلاعة ، فقال : ماذا تريدون ! فقالوا : نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قتلنا أول مرة . فقال : إني قد قضيت أنهم إليها لا يرجعون " .

وأخرج الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء - إلا الشهيد - يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة " . .

وكذلك كانت تهون الحياة على من يسمع هذه الموحيات ، ويعرف مقام الشهادة عند الله . . روى الإمام مالك . . . عن يحيى بن سعيد " أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رغب في الجهاد وذكر الجنة ، ورجل من الأنصار يأكل تمرات في يده . فقال : إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن ! فرمى ما في يده وحمل بسيفه حتى قتل " . . وقد روي أن هذا كان هو عبير بن الحمام عليه رضوان الله .

وبينما الصديقون في ذلك المقام والشهداء في هذا المقام يقول النص القرآني عن الكافرين المكذبين :

( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) . .

فمن ذا الذي يترك الكرامة والنعيم ، ويختار أن يكون من أصحاب الجحيم ? !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذا تمام لجملة ، وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون .

قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذه مفصولة { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } .

وقال أبو الضحى : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم استأنف الكلام فقال : { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وهكذا قال مسروق ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم .

وقال الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قال : هم ثلاثه أصناف : يعني المصدقين ، والصديقين ، والشهداء ، كما قال [ الله ] {[28283]} تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] ففرق بين الصديقين والشهداء ، فدل على أنهما صنفان . ولا شك أن الصديق أعلى مقامًا من الشهيد ، كما رواه الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله ، في كتابه الموطأ ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم " . قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : " بلى والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " .

اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك ، به{[28284]}

وقال آخرون : بل المراد من قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء . حكاه ابن جرير عن مجاهد ، ثم قال ابن جرير :

حدثني صالح ابن حرب أبو مَعْمَر ، حدثنا إسماعيل بن يحيى ، حدثنا ابن عَجْلان عن زيد بن أسلم ، عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مؤمنو أمتي شهداء " . قال : ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ] } {[28285]} هذا حديث غريب{[28286]}

وقال أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قال : يجيؤون يوم القيامة معًا كالإصبعين .

وقوله : { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : في جنات النعيم ، كما جاء في الصحيحين : " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تريدون ؟ فقالوا : نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قُتِلنا أول مرة . فقال إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون " {[28287]}

وقوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم ، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا يحيى ابن إسحاق ، حدثنا بن لَهِيعَة ، عن عطاء بن دينار ، عن أبي يزيد الخولاني قال : سمعت فضالة بن عُبَيد يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الإيمان ، لقي العدو فصدق الله فقتل ، فذلك{[28288]} الذي ينظر الناس إليه هكذا - ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قلنسوة عمر - والثاني مؤمن {[28289]} لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح ، جاءه سهم غَرْب فقتله ، فذاك في الدرجة الثانية ، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الثالثة ، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا كثيرًا ، لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الرابعة " . {[28290]}

وهكذا رواه علي بن المديني ، عن أبي داود الطيالسي ، عن ابن المبارك ، عن ابن لَهِيعَة ، وقال : هذا إسناد مصري صالح . ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال : حسن غريب{[28291]}

وقوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لما ذكر السعداء ومآلهم ، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم .


[28283]:- (1) زيادة من أ.
[28284]:- (2) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831)
[28285]:- (1) زيادة من م.
[28286]:- (2) تفسير الطبري (27/133).
[28287]:- (3) صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، ولم أقع عليه عند البخاري.
[28288]:- (4) في م: "فذاك".
[28289]:- (5) في أ: "رجل".
[28290]:- (6) المسند (1/23).
[28291]:- (7) سنن الترمذي برقم (1644).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم ، ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } وعلى قراءة من قرأ : «إن المصَدقين » بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ ، وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين .

والإيمان بمحمد يقتضي الإيمان بجميع الرسل ، فلذلك قال : { ورسله } . و { الصديقون } بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج ، وفعيل لا يكون فيما أحفظ إلا من فعل ثلاثي ، وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي . وقال : مسيك من أمسك ، وأقول إنه يقال : مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء ، وفي هذا نظر .

وقوله تعالى : { والشهداء عند ربهم } اختلف الناس في تأويل ذلك ، فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : { والشهداء } معطوف على قوله : { الصديقون } والكلام متصل . ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال ، فقال بعضها : وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء ، فكل مؤمن شهيد ، قاله مجاهد . وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مؤمنو أمتي شهداء » ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{[10979]} ، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً ، ولأنهم في أعلى رتب الشهادة ، ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به . وقال بعضها : وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد ، وذلك نحو قوله تعالى :

{ وتكونوا شهداء على الناس }{[10980]} [ البقرة : 143 ] فكأنه قال في هذه الآية : هم أهل الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم ، وقال ابن عباس ومسروق والضحاك : الكلام تام في قوله : { الصديقون } . وقوله : { والشهداء } ابتداء مستأنف .

ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف ، فقال بعضها معنى الآية : { والشهداء } بأنهم صديقون حاضرون { عند ربهم } . وعنى ب { الشهداء } : الأنبياء عليهم السلام ، فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون ، وهذا يفسره قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }{[10981]} [ النساء : 41 ] . وقال بعضها قوله : { والشهيد } ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله ، واستأنف الخبر عنهم بأنهم : { عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده ، وفي الحديث : «إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما »{[10982]} .

وقوله تعالى : { لهم أجرهم ونورهم } خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال ، وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة .

وقوله تعالى : { ونورهم } قال جمهور المفسرين : هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة . وقال مجاهد وغيره : هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها .

ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة ، عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق ، فذكرهم تعالى بأنهم { أصحاب الجحيم } وسكانه .


[10979]:أخرجه ابن جرير الطبري عن البراء بن عازب.
[10980]:من الآية(78) من سورة (الحج).
[10981]:من الآية (41) من سورة (النساء).
[10982]:أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، وابن حبان في صحيحه، عن أبي سعيد، وأخرجه الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة، وابن عساكر عن أبي هريرة وعن أبي عمرو. ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بأنه حديث صحيح.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

{ والذين ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون }

لما ذكر فضل المتصدقين وكان من المؤمنين من لا مال له ليتصدق منه أعقب ذكر المتصدقين ببيان فضل المؤمنين مطلقاً ، وهو شامل لمن يستطيع أن يتصدق ومن لا يستطيع على نحو التذكير المتقدم آنفاً في قوله : { وكلاًّ وعد الله الحسنى } [ النساء : 95 ] .

وفي الحديث : « إن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدُثور بالأجور يصلّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم ولا أموال لنا ، فقال : أوليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون به ، إن لكم في كل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة » .

و { الذين آمنوا } يعم كل من ثبت له مضمون هذه الصلة وما عطف عليها .

وفي جمع { ورسله } تعريض بأهل الكتاب الذين قالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، فاليهود آمنوا بالله وبموسى ، وكفروا بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون آمنوا برسل الله كلهم ، ولذلك وصفوا بأنهم الصدّيقون .

والصدّيق بتشديد الدال مبالغة في المُصَدِّق مثل المسِّيك للشحيح ، أي كثير الإِمساك لماله ، والأكثر أن يشتق هذا الوزن من الثلاثي مثل : الضلّيل ، وقد يشتق من المزيد ، وذلك أن الصيغ القليلة الاستعمال يتوسعون فيها كما توسع في السّميع بمعنى المُسْمِع في بيت عمرو بن معد يكرب ، والحكيم بمعنى المحكم في أسماء الله تعالى ، وإنما وصفوا بأنهم صدّيقون لأنهم صدّقوا جميع الرسل الحقِّ ولم تمنعهم عن ذلك عصبية ولا عناد ، وقد تقدم في سورة يوسف وصفه بالصدّيق ووصفت مريم بالصدّيقة في سورة العقود .

وضمير الفصل للقصر وهو قصر إضافي ، أي هم الصدّيقون لا الذين كذّبوا بعضَ الرسل وهذا إبطال لأن يكون أهل الكتاب صدّيقين لأن تصديقهم رسولهم لا جدوى له إذ لم يصدّقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

واسم الإِشارة للتنويه بشأنهم وللتنبيه على أن المشار إليهم استحقوا ما يرد بعد اسم الإِشارة من أجل الصفات التي قبل اسم الإِشارة .

{ والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونورهم } .

يجوز أن يكون عطفاً على { الصديقون } عطفَ المفرد على المفرد فهو عطف على الخبر ، أي وهم الشهداء . وحكي هذا التأويل عن ابن مسعود ومجاهد وزيد بن أسلم وجماعة . فقيل : معنى كونهم شهداء : أنهم شهداء على الأمم يوم الجزاء ، قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] ، فالشهادة تكون بمعنى الخبر بما يُثبت حقاً يجازى عليه بخير أو شر .

وقيل معناه : أن مؤمني هذه الأمة كشهداء الأمم ، أي كقتلاهم في سبيل الله وروي عن البراء بن عازب يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

فتكون جملة { عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } استئنافاً بيانياً نشأ عن وصفهم بتينك الصفتين فإن السامع يترقب ما هو نَوَالهم من هذين الفضلين .

ويجوز أن يكون قوله : { والشهداء } مبتدأ وجملة { عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } خبر عن المبتدأ ، ويكون العطف من عطف الجمل فيوقَف على قوله : { الصديقون } . وحكي هذا التأويل عن ابن عباس ومسروق والضحاك فيكون انتقالاً من وصف مزية الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى وصف مزية فريق منهم استأثروا بفضيلة الشهادة في سبيل الله ، وهذا من تتمة قوله : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله } إلى قوله : { والله بما تعملون خبير } [ الحديد : 10 ] فإنه لما نوّه بوعد المؤمنين المصدقين المعفيين من قوله : { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم } [ الحديد : 8 ] الخ فأوفاهم حقهم بقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } أقبل على وعد الشهداء في سبيل الله الذين تضمن ذكرهم قوله : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله } [ الحديد : 10 ] الآيات ، فالشهداء إذن هم المقتولون في الجهاد في سبيل الله .

والمعنيَانِ من الشهداء ممكن الجمع بينهما فتحمل الآية على إرادتهما على طريقة استعمال المشترك في معنييه . وقد قررنا في مواضع كثيرة أنه جرى استعمال القرآن عليه .

وضميرا { أجرهم } و { نورهم } يعودان إلى الصدّيقين والشهداء أو إلى الشهداء فقط على اختلاف الوجهين المتقدمين آنفاً في العطف .

و { عند ربهم } متعلق بالاستقرار الذي في المجرور المخبر به عن المبتدأ ، والتقدير : لهم أجرهم مستقر عند ربهم ، والعندية مجازية مستعملة في العناية والحظوة .

والظاهر في عود الضمير إلى أن يكون عائداً إلى مذكور في اللفظ بمعناه المذكور فظاهر معنى { أجرهم ونورهم } أنه أجر أولئك المذكورين ، ومعنى إضافة أجر ونور إلى ضميرهم أنه أجر يعرَّف بهم ونور يعرف بهم .

وإذ قد كان مقتضى الإضافة أن تفيد تعريف المضاف بنسبته إلى المضاف إليه وكان الأجر والنور غير معلومين للسامع كان في الكلام إبهام يكنى به عن أجر ونور عظيمين ، فهو كناية عن التنويه بذلك الأجر وذلك النور ، أي أجر ونور لا يوصفان إلا أجرهم ونورهم ، أي أجراً ونوراً لائقَيْن بمقام ، مع ضميمة ما أفادته العندية التي في قوله : { عند ربهم } من معنى الزلفى والعناية بهم المفيد عظيم الأجر والنور .

ويجوز أن يكون ضميرا { أجرهم ونورهم } عائدين إلى لفظي { الصديقون } و { الشهداء } أو إلى لفظ { الشهداء } خاصة على ما تقدم لكن بمعنى آخر غير المعنى الذي حمل عليه آنفاً بل بمعنى الصدّيقين والشهداء ممن كانوا قبلهم من الأمم ، قاله في « الكشاف » .

ومعنى الصديقين والشهداء حينئذٍ مغاير للمعنى السابق بالعموم والخصوص على طريقة الاستخدام في الضمير . وطريقة التشبيه البليغ في حمل الخبر على المبتدأ في قوله : { لهم أجرهم ونورهم } بتقدير : لهم مثل أجرهم ونورهم ، ولا تأويل في إضافة الأجر والنور إلى الضميرين بهذا المحمل فإن تعريف المضاف بَيّن لأنه قد تقرر في علم الناس ما وُعد به الصدّيقون والشهداء من الأمم الماضية قال تعالى في شأنهم :

{ وكانوا عليه شهداء } [ المائدة : 44 ] وقال : { فأولئك مع الذين أنعم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً } [ النساء : 69 ] .

وفائدة التشبيه على هذا الوجه تصوير قوة المشبه وإن كان أقوى من المشبه به لأن للأحوال السالفة من الشهرة والتحقق ما يقرِّب صورة المشبه عند المخاطب ، ومنه ما في لفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من التشبيه بقوله : « كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم » .

{ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنآ أولئك أصحاب الجحيم } .

تتميم اقتضاه ذكر أهل مراتب الإيمان والتنويه بهم ، فأتبع ذلك بوصف أضدادهم لأن ذلك يزيد التنويه بهم بأن إيمانهم أنجاهم من الجحيم .

والمراد بالذين كفروا بالله وكذّبوا بالقرآن ما يشمل المشركين واليهودَ والنصارى على تفاوت بينهم في دركات الجحيم ، فالمشركون استحقوا الجحيم من جميع جهات كفرهم ، واليهود استحقوه من يوم كذبوا عيسى عليه السلام ، والنصارى استحقّه بعضُهم حين أثبتوا لله ابناً وبعضهم من حين تكذيبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

وفي استحضارهم بتعريف اسم الإشارة من التنبيه على أنهم جديرون بذلك لأجل الكفر والتكذيب نظيرُ ما تقدم في قوله : { أولئك هم الصديقون } . ولم يؤت في خبرهم بضمير الفصل إذ لا يظن أن غيرهم أصحاب الجحيم .

والتعبير عنهم بأصحاب مضاف إلى الجحيم دلالة على شدة ملازمتهم للجحيم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والذين أقرّوا بوحدانية الله وإرساله رسله، فصدّقوا الرسل وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم، أولئك هم الصّدّيقون.

وقوله:"والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ "اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: والشهداء عند ربهم منفصل من الذي قبله، والخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله، متناه عند قوله: "الصّدّيقُونَ"... ثم ابتدئ الخبر عن الشهداء فقيل: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم...

وقال آخرون: بل قوله: والشهداء من صفة الذين آمنوا بالله ورسله قالوا: إنما تناهى الخبر عن الذين آمنوا عند قوله: "والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ" ثم ابتدئ الخبر عما لهم، فقيل: لهم أجرهم ونورهم...

وقال آخرون: الشهداء عند ربهم في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم من قول الله عزّ وجلّ "فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا".

والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: الكلام والخبر عن الذين آمنوا، متناه عند قوله: "أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ"، وإن قوله: "والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ" خبر مبتدأ عن الشهداء.

وإنما قلنا: إن ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه في الظاهر، وأنّ الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنى غيره، إلا أن يُراد به شهيد على ما آمن به وصدّقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه، إذا أطلق بغير وصل، فتأويل قوله: "والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ" إذن: والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، أو هلكوا في سبيله عند ربهم، لهم ثواب الله إياهم في الآخرة ونورهم.

وقوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا وكَذّبُوا بآياتِنا أُولَئِكَ أصحَابُ الجَحِيمِ" يقول تعالى ذكره: والذين كفروا بالله وكذّبوا بأدلته وحججه، أولئك أصحاب الجحيم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} سمى المؤمنين صديقين، والصديق لا يقال إلا لمن يكثر منه التصديق، وقد يكثر منه التصديق، وقد يكثر من كل مؤمن التصديق، وإن كان ما يأتي به، إنما هو شيء واحد، نحو أنه إذا صدق الله صدق رسله في ما أخبروا عن الله تعالى وفي ما دعوا إلى ما دعوا، وبلغوا عن الله إلى الناس، وصدق الخلائق جميعا في ما شهدوا على وحدانية الله تعالى وأوهيته من حيث شهادة الخلقة وشهادة الأخبار في حق المؤمنين. فتصديقه يكثر، وإن كان الكلام في نفسه يقل...

وقوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} من الناس من جعل قوله:

{والشهداء عند ربهم} على الابتداء مقطوعا من قوله: {أولئك هم الصديقون} ومنهم من وصله به...ومن قال: إنه موصول بالأول ذهب إلى أن المؤمنين شهداء على الناس كقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} الآية [البقرة: 143] سماهم شهداء على غيرهم من الأمم، والله أعلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصدّيقين والشهداء؛ وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: مثل أجر الصدّيقين والشهداء ومثل نورهم.

فإن قلت: كيف يسوّي بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت: المعنى أنّ الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوى أجرهم مع إضعافه أجر أولئك.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ}:...أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:"لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". وَأَمَّا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{والذين آمنوا} اي أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} اي كلهم لما لهم من النسبة إليه، فمن كذب بشيء على أحد منهم أو عمل عمل المكذب له لم يكن مؤمناً به {أولئك} أي الذين لهم الرتب العالية والمقامات السامية {هم} أي خاصة لا غيرهم {الصديقون} أي الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه، ولما كان الصديق لا يكون عريقاً في الصديقية إلا بالتأهيل لرتبة الشهادة قال تعالى: {والشهداء} معبراً بما مفرده شهيد عاطفاً بالواو إشارة إلى قوة التمكن في كل من الوصفين...

{والذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه أنوار عقولهم ومرائي فكرهم {وكذبوا بآياتنا} على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا سواء كانوا في ذلك مساترين أو مجاهرين أو عمل العالم بها عمل المكذب {أولئك} أي المبعدون من الخير خاصة {أصحاب الجحيم}...وأولئك هم الكاذبون الذين لا تقبل لهم شهادة عند ربهم، لهم عقابهم وعليهم ظلامهم، والآية من الاحتباك: ذكر الصديقية وما معها أولاً دليلاً على أضدادها ثانياً، و الجحيم ثانياً دليلاً على النعيم أولاً، وسره أن الأول أعظم في الكرامة، والثاني أعظم في الإهانة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون).. وتلك خاصية هذا الدين وميزته. إنه طريق مفتوح لجميع البشر، وأفق يتطلع إليه الجميع، ليس فيه احتكار للمقامات، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم. وليس إلا العمل يصعد بصاحبه إلى أرقى الدرجات. إنه دين لا مجال فيه للطبقات المحفوظة المقام!...