الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والذين أقرّوا بوحدانية الله وإرساله رسله، فصدّقوا الرسل وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم، أولئك هم الصّدّيقون.

وقوله:"والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ "اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: والشهداء عند ربهم منفصل من الذي قبله، والخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله، متناه عند قوله: "الصّدّيقُونَ"... ثم ابتدئ الخبر عن الشهداء فقيل: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم...

وقال آخرون: بل قوله: والشهداء من صفة الذين آمنوا بالله ورسله قالوا: إنما تناهى الخبر عن الذين آمنوا عند قوله: "والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ" ثم ابتدئ الخبر عما لهم، فقيل: لهم أجرهم ونورهم...

وقال آخرون: الشهداء عند ربهم في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم من قول الله عزّ وجلّ "فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا".

والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: الكلام والخبر عن الذين آمنوا، متناه عند قوله: "أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ"، وإن قوله: "والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ" خبر مبتدأ عن الشهداء.

وإنما قلنا: إن ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه في الظاهر، وأنّ الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنى غيره، إلا أن يُراد به شهيد على ما آمن به وصدّقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه، إذا أطلق بغير وصل، فتأويل قوله: "والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ" إذن: والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، أو هلكوا في سبيله عند ربهم، لهم ثواب الله إياهم في الآخرة ونورهم.

وقوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا وكَذّبُوا بآياتِنا أُولَئِكَ أصحَابُ الجَحِيمِ" يقول تعالى ذكره: والذين كفروا بالله وكذّبوا بأدلته وحججه، أولئك أصحاب الجحيم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} سمى المؤمنين صديقين، والصديق لا يقال إلا لمن يكثر منه التصديق، وقد يكثر منه التصديق، وقد يكثر من كل مؤمن التصديق، وإن كان ما يأتي به، إنما هو شيء واحد، نحو أنه إذا صدق الله صدق رسله في ما أخبروا عن الله تعالى وفي ما دعوا إلى ما دعوا، وبلغوا عن الله إلى الناس، وصدق الخلائق جميعا في ما شهدوا على وحدانية الله تعالى وأوهيته من حيث شهادة الخلقة وشهادة الأخبار في حق المؤمنين. فتصديقه يكثر، وإن كان الكلام في نفسه يقل...

وقوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} من الناس من جعل قوله:

{والشهداء عند ربهم} على الابتداء مقطوعا من قوله: {أولئك هم الصديقون} ومنهم من وصله به...ومن قال: إنه موصول بالأول ذهب إلى أن المؤمنين شهداء على الناس كقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} الآية [البقرة: 143] سماهم شهداء على غيرهم من الأمم، والله أعلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصدّيقين والشهداء؛ وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: مثل أجر الصدّيقين والشهداء ومثل نورهم.

فإن قلت: كيف يسوّي بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت: المعنى أنّ الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوى أجرهم مع إضعافه أجر أولئك.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ}:...أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:"لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". وَأَمَّا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{والذين آمنوا} اي أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} اي كلهم لما لهم من النسبة إليه، فمن كذب بشيء على أحد منهم أو عمل عمل المكذب له لم يكن مؤمناً به {أولئك} أي الذين لهم الرتب العالية والمقامات السامية {هم} أي خاصة لا غيرهم {الصديقون} أي الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه، ولما كان الصديق لا يكون عريقاً في الصديقية إلا بالتأهيل لرتبة الشهادة قال تعالى: {والشهداء} معبراً بما مفرده شهيد عاطفاً بالواو إشارة إلى قوة التمكن في كل من الوصفين...

{والذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه أنوار عقولهم ومرائي فكرهم {وكذبوا بآياتنا} على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا سواء كانوا في ذلك مساترين أو مجاهرين أو عمل العالم بها عمل المكذب {أولئك} أي المبعدون من الخير خاصة {أصحاب الجحيم}...وأولئك هم الكاذبون الذين لا تقبل لهم شهادة عند ربهم، لهم عقابهم وعليهم ظلامهم، والآية من الاحتباك: ذكر الصديقية وما معها أولاً دليلاً على أضدادها ثانياً، و الجحيم ثانياً دليلاً على النعيم أولاً، وسره أن الأول أعظم في الكرامة، والثاني أعظم في الإهانة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون).. وتلك خاصية هذا الدين وميزته. إنه طريق مفتوح لجميع البشر، وأفق يتطلع إليه الجميع، ليس فيه احتكار للمقامات، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم. وليس إلا العمل يصعد بصاحبه إلى أرقى الدرجات. إنه دين لا مجال فيه للطبقات المحفوظة المقام!...