قوله تعالى : { وهزي إليك } ، يعني قيل لمريم : حركي { بجذع النخلة } ، تقول العرب : هزه وهز به ، كما يقول : حز رأسه وحز برأسه ، وأمدد الحبل وأمدد به ، { تساقط عليك } ، القراءة المعروفة بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، أي : تتساقط ، فأدغمت إحدى التاءين في السين أي : تسقط عليك النخلة رطباً ، وخفف حمزة السين وحذف التاء التي أدغمها غيره . وقرأ حفص بضم التاء وكسر القاف خفيف على وزن تفاعل . وتساقط بمعنى أسقط ، والتأنيث لأجل النخلة . وقرأ يعقوب : يساقط بالياء مشددة ردة إلى الجذع . { رطباً جنياً } ، مجنياً . وقيل : الجني هو الذي بلغ الغاية ، وجاء أوان اجتبائه . قال الربيع بن خثيم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل .
قرأ بعضهم { مَنْ تَحْتَهَا } بمعنى{[18763]} الذي تحتها . وقرأ آخرون : { مِنْ تَحْتِهَا } على أنه حرف جر .
واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو ؟ فقال العوفي وغيره ، عن ابن عباس : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ، وكذا قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، وعمرو بن ميمون ، والسدي ، وقتادة : إنه الملك جبريل عليه الصلاة والسلام ، أي : ناداها من أسفل الوادي .
وقال مجاهد : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } قال : عيسى ابن مريم ، وكذا قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : قال الحسن : هو ابنها . وهو إحدى{[18764]} الروايتين عن سعيد بن جبير : أنه ابنها ، قال : أولم{[18765]} تسمع الله يقول : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [ مريم : 29 ] ؟ واختاره ابن زيد ، وابن جرير في تفسيره{[18766]}
وقوله : { أَلا تَحْزَنِي } أي : ناداها قائلا لا تحزني ، { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال سفيان الثوري وشعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال : الجدول . وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : السريّ : النهر . وبه قال عمرو بن ميمون : نهر تشرب منه .
وقال مجاهد : هو النهر بالسريانية .
وقال سعيد بن جُبَيْر : السري : النهر الصغير بالنبطية .
وقال الضحاك : هو النهر الصغير بالسريانية .
وقال إبراهيم النَّخَعِي : هو النهر الصغير .
وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز .
وقال وهب بن مُنَبِّه : السري : هو ربيع الماء .
وقال السدي : هو النهر ، واختار هذا القول ابن جرير . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ، فقال الطبراني :
حدثنا أبو شعيب الحَرَّاني : حدثنا يحيى بن عبد الله البَابلُتِّي{[18767]} حدثنا أيوب بن نَهِيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن السري الذي قال الله لمريم : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } نهر أخرجه الله لتشرب منه " {[18768]} وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه . وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي{[18769]} قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف . وقال أبو زُرْعَة : منكر الحديث . وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث .
وقال آخرون : المراد بالسري : عيسى ، عليه السلام ، وبه قال الحسن ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن عَبَّاد بن جعفر . وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والقول الأول أظهر ؛ ولهذا قال بعده : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } أي : وخذي إليك بجذع النخلة . قيل : كانت يابسة ، قاله ابن عباس . وقيل : مثمرة . قال مجاهد : كانت عجوة . وقال الثوري ، عن أبي داود{[18770]} نُفَيْع الأعمى : كانت صَرَفَانة{[18771]}
والظاهر أنها كانت شجرة ، ولكن لم تكن في إبان ثمرها ، قاله وهب بن منبه ؛ ولهذا امتن عليها بذلك ، أن جعل عندها طعامًا وشرابًا ، فقال : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } أي : طيبي نفسًا ؛ ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، ثم تلا هذه الآية الكريمة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا شَيْبَان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي{[18772]} حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن عُروة بن رُوَيْم ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام ، وليس من الشجر شيء{[18773]} يُلَقَّح غيرها " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أطعموا نساءكم الولدَ الرطَبَ ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران " .
هذا حديث منكر جدًّا ، ورواه أبو يعلى ، عن شيبان ، به{[18774]}
وقرأ بعضهم قوله : " تساقط " بتشديد السين ، وآخرون بتخفيفها ، وقرأ أبو نَهِيك : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } وروى أبو إسحاق عن البراء : أنه قرأها : " تساقط " {[18775]} أي : الجذع . والكل متقارب .
وقوله : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا } أي : مهما رأيت من أحد ، { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } المراد بهذا القول : الإشارة إليه بذلك . لا أن{[18776]} المراد به القول اللفظي ؛ لئلا ينافي : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا }
قال أنس بن مالك في قوله : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } أي : صمتًا{[18777]} وكذا قال ابن عباس ، والضحاك . وفي رواية عن أنس : " صومًا وصمتًا " ، وكذا قال قتادة وغيرهما .
والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام ، نص على ذلك السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد .
وقال أبو إسحاق ، عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ، فقال : ما شأنك ؟ قال أصحابه : حلف ألا يكلم الناس اليوم . فقال عبد الله بن مسعود : كلِّم الناس وسلم عليهم ، فإنما تلك امرأة علمت أن أحدًا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج . يعني بذلك مريم ، عليها السلام ؛ ليكون عذرًا لها إذا سئلت . ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله .
وقال عبد الرحمن بن زيد : لما قال عيسى لمريم : { أَلا تَحْزَنِي } قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ؟ ! لا ذاتُ زوج ولا مملوكة ، أي شيء عذري عند الناس ؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا ، قال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } قال : هذا كله من كلام عيسى لأمه . وكذا قال وهب .
ثم أمر بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع ، وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة { رطباً } ، وقال السدي كان الجذع مقطوعاً وأجرى النهر تحتها لحينه ، والظاهر من الآية أن عيسى هو المكلم لها وأن الجذع كان يابساً وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها . والباء في قوله { بجذع } زائدة مؤكدة قال أبو علي : كما يقال ألقى بيده أي ألقى يده .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المثال عندي نظر ، وأنشد الطبري : [ الطويل ]
بواد يمان ينبت السدر صدره . . . وأسفله بالمزج والشبهان{[7938]}
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر والكسائي وابو بكر عن عاصم والجمهور من الناس «تَسّاقط » بفتح التاء وشد السين يريد { النخلة } ، وقرأ البراء بن عازب والأعمش «يساقط » بالياء يريد «الجذع » ، وقرأ حمزة وحده «تَسَاقط » بفتح التاء وتخفيف السين ، وهي قراءة مسروق وابن وثاب وطلحة وأبي عمرو بخلاف ، وقرأت فرقة «يساقط » بالياء على ما تقدم من إدارة { النخلة } أو «الجذع » . وقرأ عاصم في رواية حفص «تُسَاقط » بضم التاء وتخفيف السين ، وقرأت فرقة «يساقط » بالياء ، وقرأ أبو حيوة «يسقط » بالياء ، وروي عنه «يُسقط » بضم الياء وقرأ أيضاً «تسقط » وحكى أبو علي في الحجة أنه قرئ «يتساقط » بباء وتاء ، وروي عن مسروق «تُسقِط » بضم التاء وكسر القاف ، وكذلك عن أبي حيوة ، وقرأ أبو حيوة أيضاً «يسقُط » بفتح الياء وضم القاف ، «رطب جني » بالرفع ، ونصب { رطباً } يختلف بحسب معاني القراءات المذكورة ، فمرة يسند الفعل الى الجذع ومرة الى الهز ، ومرة الى { النخلة } و { جنياً } معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهو من جنيت الثمرة . وقرأ طلحة بن سليمان{[7939]} «جِنياً » بكسر الجيم ، وقال عمرو بن ميمون : ليس شيء للنفساء خيراً من التمر والرطب ، وقال محمد بن كعب : كان رطب عجوة ، وقد استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوماً فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم الى سعي ما فيه لأنه أمرت مريم بهز الجذع لترى آية ، وكانت الآية تكون بأن لا تهز هي . وحكى الطبري عن ابن زيد أنه قال «قال لها عيسى : لا تحزني ، فقالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس { يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً } [ مريم : 23 ] ، فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام »{[7940]} .
فائدة قوله { وَهُزِي إليْكِ بِجِذْعِ } أن يكون إثمار الجذع اليابس رُطباً ببركة تحريكها إياه ، وتلك كرامة أخرى لها . ولتشاهد بعينها كيف يُثمر الجذع اليابس رطباً . وفي ذلك كرامة لها بقوّة يقينها بمرتبتها .
والباء في { بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وقوله { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
وضمن { وَهُزي } معنى قَرّبي أو أدني ، فعُدي ب ( إلى ) ، أي حرّكي جذع النخلة وقرّبيه يَدْنُ إليك ويَلِنْ بعد اليبس ويُسقط عليك رطباً .
والمعنى : أدني إلى نفسك جِذع النخلة . فكان فاعل الفعل ومتعلقه متحداً ، وكلاهما ضميرُ معادٍ واحد ، ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو { واضمم إليك جناحك } [ القصص : 32 ] . فالضامّ والمضموم إليه واحد . وإنما منَع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلاّ في أفعال القلوب ، وفي فعلي : عَدِم وفَقَد ، لعدم سماع ذلك ، لا لفساد المعنى ، فلا يقاس على ذلك منع غيره .
والجَنيّ : فعيل بمعنى مفعول ، أي مجتنى ، وهو كناية عن حَدثان سقوطه ، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهداً بنخلته كان أطيب طعماً .
و { تَسَّاقط } قرأه الجمهور بفتح التاء وتشديد السين أصله تتساقط بتاءين أدغمت التاء الثانية في السين ليتأتى التخفيف بالإدغام .
وقرأه حمزة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين للتخفيف . و { رُطَبَاً } على هاته القراءات تمييز لنسبة التساقط إلى النخلة .
وقرأه حفص بضم التاء وكسر السين على أنه مضارع سَاقَطَت النخلة تمرَها ، مبالغة في أسقطت و { رُطَباً } مفعول به .
وقرأه يعقوب بياء تحتية مفتوحة وفتح القاف وتشديد السين فيكون الضمير المستتر عائداً إلى { جِذْع النَّخْلةِ } .