الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا} (25)

قوله : { وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ } : يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في " بِجَذْعِ " زائدةً كهي في قولِه تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقولِه : ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْن بالسُّوَر

وأنشد الطبري :

بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه *** وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ

أي : هُزِّي جِذْعَ النخلةِ . ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً ، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه : وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة . ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى ؛ إذِ التقدير : هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع ، أي : انفُضِي الجِذْع . وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : " أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي

قال الشيخ : " وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ }

[ القصص : 32 ] ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو : من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في باب ظنٍّ ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ ، لا يُقالُ : ضَرَبْتَكَ ولاَ ضَرَبْتُني ، أي : ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي ، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس ، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال : هَزَزْتَ إليك ، ولا زيدٌ هَزَّ إليه ، ولذلك جَعَلَ النحويون " عن " و " على " اسْمَيْن في قولِ امرِئ القيس :

دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه *** ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ

وقول الآخر :

هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ *** بِكَفِّ الإِلهِ مقادِيْرُها

وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله :

غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها *** تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ

وقولِ الآخر :

فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ *** مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ

وإمَّا " إلى " فحرفٌ بلا خلافٍ ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً ك " عَنْ " و " على " . ثم أجاب : بأنَّ " إليك " في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله ، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه : أَعْني إليك " . قال : " كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه : { لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] في أحد الأوجه " .

قلت : وفي ذلك جوابان آخران ، أحدهما : أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير ، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو : " دَعْ عنك " " وهَوِّنْ عليك " وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ . والثاني : أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره : هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك ، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك .

قوله : " تُساقِطْ " قرأ حمزة " تَسَاقَطْ " بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف . والباقون - غيرَ حفصٍ - كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين ، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف .

فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص " تَتَساقط " بتاءين ، مضارعَ " تساقَطَ " فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو : " تَنَزَّلٌ " و " تَذَكَّرون " ، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن .

وقراءةُ حفص مضارع " ساقَطَ " .

وقرأ الأعمش والبراء بن عازب " يَسَّاقَطْ " كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ ، أدغم التاء في السين ، إذ الأصلُ : يتساقط فهو مضارع " اسَّاقط " وأصلُه يَتَساقط ، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك " ادَّارَأ " في تَدَارَأَ .

ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ :/ وافقه مسروقٌ في الأولى ، وهي " تُسْقِط " بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط . والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت . الثالثة كذلك إلا أنه رفع " رُطَباً جَنِيَّاً " بالفاعلية .

وقُرِئَ " تَتَساقط " بتاءين مِنْ فوقُ ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة . وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف . فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية ، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة . ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ : إمَّا للنخلة ، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق ، وإمَّا للجِذْع . وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث ، فهو كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم

وكقراءة " تَلْتَقِطْه بعض السيارة " . ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل : للثمر المدلولِ عليه بالسياق .

وأمَّا نَصْبُ " رُطَباً " فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حالاً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازماً ، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً ، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء إلى ما يليق به من القراءات . وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً : وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به ب " هُزِّيْ " وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً ، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول .

وقرأ طلحة بن سليمان " جَنِيَّاً " بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون .

والرُّطَبُ : اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ " تُخَم " فإنَّع لتُخَمة ، والفرق : أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا : هو الرُّطَبُ ، وتأنيثَ ذاك فقالوا : هي التُّخَم ، فذكَّروا " الرطب " باعتبار الجنس ، وأنَّثوا " التُّخَم " باعتبار الجمعية ، وهو فرقٌ لطيفٌ . ويُجْمَعُ على " أَرْطاب " شذوذاً كرُبَع وأَرْباع . والرُّطَب : ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه ، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ . وأَرْطَبَ النخلُ نحو : أَتْمَرَ وأَجْنَى .

والجَنِيُّ : ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء . وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل : بمعنى فاعِل : أي : طَرِيَّاً ، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً : المُجَتَنَى من العَسَلِ ، وأَجْنَى الشجرُ : أَدْرَك ثَمَرُه ، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها . واسْتُعير من ذلك " جَنَى فلانٌ جنايةً " كما استعير " اجْتَرَم جريمةً " .