اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا} (25)

قوله تعالى : { وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } : يجوز أن تكون الباءُ في " بِجِذْعٍ " زائدة ، كهي في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقوله ] :

. . . *** . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ{[21537]}

وأنشد الطبريُّ -رحمة الله تعالى- : [ الطويل ]

بِوَادٍ يمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صدْرُهُ *** وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهَانِ{[21538]}

أي : ينبت المرخ أي : هُزِّي جذْعَ النَّخلةِ .

أو حركي جذْعَ النَّخلة . قال الفرَّاء : العربُ تقول : هزَّهُ ، وهزَّ به ، وأخذ الخطام وأخذ بالخطام ، وزوَّجتُك فلانة ، وبفُلانةٍ ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً ، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوف ، تقديره : وهُزِّي إليك رُطباً كائناً بجذع النخلة ، ويجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى ؛ إذ التقدير : هُزِّي الثمرةَ بسبب هزِّ الجِذْع ، أي : انفُضِي الجِذْع ، وإليه نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال : " أو افْعَلِي الهَزَّ " ؛ مقوله : [ الطويل ]

. . . *** يَجْرَحْ فِي عَراقِيبِهَا نَصْلِي{[21539]}

قال أبو حيَّان : وفي هذه الآية ، وفي قوله تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] ما يردُّ على القاعدة المقرَّرةِ في علم النَّحو : من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتَّصل إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب " ظنَّ " وفي لَفْظَتَيْ " فَقَدَ ، وعدِمَ " لا يقالُ : ضربْتُكَ ، ولا ضَرَبْتُني ، أي : ضَربْتَ أنْتَ نَفْسَكَ ، وضَربْتُ أنَا نفسي ، وإنما يؤتى في هذا بالنَّفْسِ ، وحكمُ المجرور بالحرف المنصوب ؛ فلا يقال : هَزَزْتَ إليك ، ولا زيدٌ هزَّ إليه ؛ ولذلك جعل النحويُّون " عَنْ " و " عَلَى " اسمين في قول امرئ القيس : [ الطويل ]

دَعْ عَنْكَ نَهْباً صيحَ في حُجُراتِهِ *** ولكِنْ حدياً ما حَدِيثُ الرَّواحِلِ{[21540]}

وقول الآخر : [ المتقارب ]

هَوِّنْ عليمَ فإنَّ الأمُورَ *** بكَفِّ الإلهِ مقاديرُهَا{[21541]}

وقد ثبت بذلك كونهما اسمين ؛ لدُخُولِ حرفِ الجرِّ عليهما في قوله : [ الطويل ]

غَدَتْ من عليْهِ بعدما تمَّ ظمؤهَا *** تَصِلُ وعن قَيْضٍ بِبَيْدَاءَ مَجْهَلِ{[21542]}

وقول الآخر : [ البسيط ]

فَقُلْتُ للرَّكْبِ لمَّا أن عَلا بِهِمُ *** مِنْ عَنْ يمينِ الحُبَيَّا نظرةٌ قَبْلُ{[21543]}

وأمَّا " إلى " فحرفٌ بلا خلافٍ ، فلا يمكنُ فيها أن تكون اسماً ؛ ك " عَنْ " و " عَلَى " ثم أجاب : بأنَّ " إليكِ " في الآيتين لا تتعلقُ بالفعل قبله ، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان ، تقديره : " أعني إليك " قال : " كما تأولوا ذلك في قوله : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] في أحد الأوجه " .

قال شهاب الدين -رضي الله تعالى عنه- : وفيه ذلك جوابان آخران :

أحدهما : أن الفعل الممنوع إلى الضمير المتصل ، إنما هو من حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير ، والضمير محلٌّ له ؛ نحو : " دَعْ عنْكَ " و " هوِّنْ عليْكَ " وأمَّا الهزُّ والضمُّ ، فليسا واقعين بالكاف ، فلا محذور .

والثاني : أنَّ الكلام على حذف مضافٍ ، تقديره : هُزِّي إلى جهتك ونحوك واضمم إلى جهتك ونحوك .

فصل في المراد بجذع النخلة

قال [ القفال ]{[21544]} {[21545]} : الجِذْعُ من النَّخلة : هو الأسفل ، وما دُون الرَّأس الذي عليه الثَّمرة .

وقال قطربٌ : كُلُّ خشبة في أصل شجرة ، فهي جذعٌ .

قوله : " تُسَاقِطْ " قرأ حمزةُ{[21546]} " تَسَاقَطْ " بفتح التاء ، وتخفيف السين ، وفتح القاف ، والباقون -غير حفص- كذلك إلا أنَّهم شدَّدُوا السِّين ، وحفصٌ ، بضم التاء ، وتخفيف السين ، وكسر القاف .

فأصلُ قراءةِ غير حفص " تتساقطْ " بتاءين ، مضارع " تَساقَطَ " فحذف حمزة إحدى التاءين تخفيفاً ؛ نحو : { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] و { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، والباقون أدغمُوا في السِّين ، وقراءة حفص مضارعُ " سَاقَطَ " .

وقرأ الأعمش ، والبراء [ بنُ عازبٍ ] " يَسَّاقَطْ " كالجماعة ، إلا أنه بالياء من تحتُ ، أدغم التاء في السِّين ؛ إذ الأصلُ : " يتساقَط " فهو مضارعُ " اسَّاقَطَ " وأصله " يَتَساقَطُ " فأدغمَ ، واجتلبتْ همزة الوصل ؛ ك " ادَّارَأ " في " تَدَارَأ " .

ونْقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ :

وافقهُ مسروقٌ في الأولى ، وهي " تُسْقِطْ " بضم التاء ، وسكون السين ، وكسر القاف من " أسْقَطَ " .

والثانية : كذلك إلا أنه بالياء من تحتُ .

الثالثةُ كذلك إلاّ أنه رفع " رُطَباً جَنِيًّا " بالفاعلية .

وقُرِئَ{[21547]} " تَتَسَاقَط " بتاءين من فوقُ ، وهو أصل قراءة الجماعة ، وتَسْقُط ويَسْقُط ، بفتح التاء والياء ، وسكون السين ، وضمِّ القاف ، فرفعُ الرطب بالفاعلية ، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة ، ومن قرأ بالتاء من فوق ، فالفعل مسندٌ : إمَّا للنَّخلة ، وإمَّا للثمرةِ المفهومة من السياق ، وإمَّا للجذْعِ ، وجاز تأنيثُ فعله ؛ لإضافته إلى مؤنَّث ؛ فهو كقوله : [ الطويل ]

. . . *** كَمَا شَرقَتْ صَدْرُ القناةِ مِن الدَّمِ{[21548]}

وكقراءة { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] ومن قرأ بالياء من تحت ، فالضميرُ للجذْعِ ، وقيل : للثَّمر المدلول عليه بالسيِّاق .

وأمَّا نصب " رُطَباً " فلا يخرجُ عن كونه تمييزاً ، أو حالاً موطِّئة ، إن كان الفعل قبله لازماً ، أو مفعولاً به ، إن كان الفعل متعدِّياً ، [ والذَّكِيُّ ] يردُّ كلَّ شيءٍ إلى ما يليقُ به من القراءات ، وجوَّز المبرِّد في نصبه وجهاً غريباً : وهو أن يكون مفعولاً به ب " هُزِّي " وعلى هذا ، فتكون المسألةُ من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أن يكون الفعل فيها متعدِّياً ، وتكون المسألةُ من إعمال الثاني ، للحذف من الأوَّل .

وقرأ{[21549]} طلحة بن سليمان " جنيًّا " بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون .

والرُّطبُ : اسم جنسٍ برطبة ؛ بخلاف " تُخَم " فإنَّه جمعٌ لتخمة ، والفرقُ : أنهم لزمُوا تذكيرهُ ، فقالوا : هو الرطبُ ، وتأنيث ذاك ، فقالوا : هي التُّخَمُ ، فذكَّرُوا " الرُّطَب " باعتبار الجنس ، وأنَّثُوا " التُّخَمَ " باعتبار الجمعيَّة ، وهو فرقٌ لطيفٌ ، ويجمعُ على " أرطابٍِ " شذوذاً كربع وأرباع ، والرُّطب : ما قطع قبل يبسه وجفافه ، وخصَّ الرُّطب بالرُّطبِ من التَّمر ، وأرطبَ النَّخْلُ ؛ نحو : أتْمَرَ وأجْنَى .

والجَنِيُّ : ما طاب ، وصلح للاجتناء ، وهو " فَعِيلٌ " بمعنى مفعول أي رُطَباً مَجنيًّا ، وقيل : بمعنى فاعلٍ ، أي : طريًّا ، والجنى والجنيُّ أيضاً : المُجْتَنَى من العسلِ ، وأجْنَى الشَّجَرُ : أدْرَكَ ثمرهُ ، وأجنتِ الأرضُ : كَثُرَ جناها ، واستعير من ذلك " جنى فلانٌ جنايةً " كما استعير " اجْتَرَمَ جَريمَةً " .


[21537]:تقدم.
[21538]:البيت للأحوال اليشكري وقيل لغيره، ينظر: مجاز القرآن 2/48، البحر 6/174، القرطبي 12/25، التهذيب "هشم"، اللسان "شبه"، الدر المصون 4/500.
[21539]:تقدم.
[21540]:تقدم.
[21541]:تقدم.
[21542]:تقدم.
[21543]:البيت للقطامي ينظر: ديوانه (5)، شرح المفصل لابن يعيش 8/41، المقرب 1/195، اللسان "عنن"، الدر المصون 4/500.
[21544]:في ب: الفقهاء.
[21545]:في أ: الفقهاء.
[21546]:ينظر في قراءاتها: السبعة 409، والتيسير 149، والنشر 2/318، والحجة 442، والمحتسب 2/40، والحجة للقراء السبعة 5/197، 198، وإعراب القراءات 2/16، 17، والإتحاف 2/235، والقرطبي 11/64، والبحر 6/175.
[21547]:هي قراءة أبي السّمال: ينظر: الشواذ 84، والدر المصون 4/501، والبحر 6/175.
[21548]:تقدم.
[21549]:ينظر: المحتسب 2/41، والبحر 6/175، والدر المصون 4/501، والكشاف 3/14.