الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا} (25)

قوله تعالى : { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا . فكلي واشربي وقَرّي عينا } فيه أربع مسائل :

الأولى-قوله تعالى : " وهزي " أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع . والباء في قوله : " بجذع " زائدة مؤكدة كما يقال : خذ بالزمام ، وأعط بيدك قال الله تعالى : " فليمدد بسبب إلى السماء " {[10814]} أي فليمدد سببا . وقيل : المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة . " وتساقط " أي تتساقط فأدغم التاء في السين . وقرأ حمزة " تساقط " مخففا فحذف التي أدغمها غيره . وقرأ عاصم في رواية حفص " تساقط " بضم التاء مخففا وكسر القاف . وقرئ " تتساقط " بإظهار التاءين و " يساقط " بالياء وإدغام التاء " وتسقط " و " يسقط " و " تسقط " و " يسقط " بالتاء للنخلة وبالياء للجذع ، فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه . " رطبا " نصب بالهز ، أي إذا هزت الجذع هززت بهزه " رطبا جنيا " وعلى الجملة ف " رطبا " يختلف نصبه بحسب معاني القراءات ، فمرة يستند الفعل إلى الجذع ، ومرة إلى الهز ، ومرة إلى النخلة . و " جنيا " معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهي من جنيت الثمرة . ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ " تساقط عليك رطبا جنيا برنيا " {[10815]} . وقال مجاهد : " رطبا جنيا " قال : كانت عجوة . وقال عباس بن الفضل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله : " رطبا جنيا " فقال : لم يذو . قال وتفسيره : لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه ، وهذا هو الصحيح . قال الفراء : الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح . وقال غير الفراء : الجني المقطوع من نخلة واحدة ، والمأخوذ من مكان نشأته ، وأنشدوا :

وطيب ثمارٍ في رياضٍ أريضةٍ *** وأغصان أشجارٍ جناها على قُرْبِ

يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ . قال ابن عباس : كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع ، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف ، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ، ثم رطبا ، كل ذلك في طرفة عين ، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء .

الثانية-استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما ، فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه ؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة{[10816]} لترى آية ، وكانت الآية تكون بألا تهز .

الثالثة-الأمر بتكليف الكسب الرزق سنة الله تعالى في عباده ، وأن ذلك لا يقدح في التوكل ، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة ، وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه . وقد كانت قبل ذلك يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " {[10817]} الآية [ آل عمران : 37 ] . فلما ولدت أمرت بهز الجذع . قال علماؤنا : لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه ، واشتغل سرها بحديثه وأمره ، وكلها إلى كسبها ، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده . وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها : لا تحزني ، فقالت له : وكيف لاأحزن وأنت معي ؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة ! أي شيء عذري عند الناس ؟ ! ! " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام .

الرابعة-قال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية ، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا : التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك . وقيل : إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل ، ذكره الزمخشري . قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى : " رطبا جنيا " الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد . والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب ، فهذا مكروه ، يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه ، ولا حكما بطيبه . وقد مضى هذا القول في الأنعام{[10818]} . والحمد لله . عن طلحة بن سليمان " جنيا " بكسر الجيم للإتباع .

أي جعلنا{[10819]} لك في السري والرطب فائدتين : إحداهما الأكل والشرب ، الثانية : سلوة الصدر لكونهما معجزتين . وهو معنى قوله تعالى : " فكلي واشربي وقري عينا " .


[10814]:راجع جـ 12 ص 22.
[10815]:البرني: ضرب من التمر أصفر مدور، وهو أجود التمر، واحد برنية.
[10816]:في جـ وك: الجذع.
[10817]:راجع جـ 4 ص 69.
[10818]:راجع جـ 7 ص 50 وما بعدها.
[10819]:في جـ وك: جمعنا.