قوله تعالى : { قالوا } أي : الأتباع للرؤساء ، { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } أي : من قبل الدين فتضلوننا عنه وتروننا أن الدين ما تضلوننا به ، قاله الضحاك . وقال مجاهد : عن الصراط الحق ، واليمين عبارة عن الدين ، والحق كما أخبر الله تعالى عن إبليس : ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق . وقال بعضهم : كان الرؤساء يحلفون لهم أن ما يدعونهم إليه هو الحق ، فمعنى قوله : { تأتوننا عن اليمين } أي : من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها . وقيل : { عن اليمين } أي : عن القوة والقدرة ، كقوله : { لا تأخذ منه باليمين } والمفسرون على القول الأول .
قالوا لهم ههنا : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : يقولون : كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا ، لأنا{[24939]} كنا أذلاء وكنتم أعزاء .
وقال مجاهد : يعني : عن الحق ، الكفار تقوله{[24940]} للشياطين .
وقال قتادة : قالت الإنس للجن : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } قال : من قبل الخير ، فتنهونا عنه وتبطئونا عنه .
وقال السدي تأتوننا [ عن اليمين ]{[24941]} من قبل الحق ، تزينون{[24942]} لنا الباطل ، وتصدونا عن الحق .
وقال الحسن في قوله : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } إيْ والله ، يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه .
وقال ابن زيد : معناه تحولون بيننا وبين الخير ، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به .
وقال يزيد الرشْك : من قبل " لا إله إلا الله " . وقال خُصيف : يعنون من قبل ميامنهم . وقال
عكرمة { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } ، قال : من حيث نأمنكم .
والقائلون { إنكم كنتم تأتونا عن اليمين } إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين وهذا قول مجاهد وابن زيد ، وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة ، واضطرب المتأولون في معنى قولهم { عن اليمين } وعبر ابن زيد وغيره عنه بطريقة الجنة والخير ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى لا تختص باللفظة وبعضهم أيضاً نحا في تفسير الآية إلى ما يخصها ، والذي يتحصل من ذلك معان منها أن يريد ب { اليمين } القوة والشدة فكأنهم قالوا إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة فعبر عن هذا المعنى ب { اليمين } كما قالت العرب «بيدين ما أورد »{[9840]} ، وكما قالوا «اليد » في غير موضع عن القوة ، وقد ذهب بعض الناس ببيت الشماخ هذا المذهب وهو قوله : { الوافر ]
إذا ما راية رفعت لمجد . . . تلقاها عرابة باليمين{[9841]}
فقالوا معناه بقوة وعزمة ، وإلا فكل أحد كان يتلقاها بيمينه ، لو كانت الجارحة ، وأيضاً فإنما استعار الراية للمجد فكذلك لم يرد باليمين الجارحة ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا { إنكم كنتم تأتوننا } من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم ويظهر فيها أنها جهة الرشد والصواب ، فتصير عندنا كاليمين التي بيمين السانح الذي يجيء من قبلها .
قال القاضي أبو محمد : فكأنهم شبهوا أقوال هؤلاء المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن التمويه في هذه الغوايات قد أظهر فيها ما يوشك أن يحمد به ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا إنكم كنتم تأتوننا أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن معبر عنها ب { اليمين } ، إذ اليمين هي الجهة ا لتي يتيمن بكل ما كان فيها ومنها{[9842]} .
ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا أنكم كنتم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر ، والجهة الثقيلة من الإنسان وهي جهة اليمين منه لأن كبده فيها ، وجهة شماله فيها قلبه وهي أخف ، وهذا معنى قول الشاعر :
تركنا لهم شق الشمال . . . . . . {[9843]}
أي زلنا لهم عن طريق الهروب ، لأن المنهزم إنما يرجع على شقه الأيسر إذ هو أخف شقيه ، وإذا قلب الإنسان في شماله وثم نظره فكأنه هؤلاء كانوا يأتون من جهة الشهوات والثقل .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين وهو قلق مع إغواء بني آدم ، وقيل المعنى تحلفون لنا وتأتوننا إتيان من إذا حلف صدقناه .
قال القاضي أبو محمد : فاليمين على هذا القسم ، وقد ذهب بعض الناس في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله
{ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم }{[9844]} [ الأعراف : 17 ] إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات فقال ما بين يديه هي مغالطته فيما يراه ، وما خلفه هو ما يسارق فيه الخفاء ، وعن يمينه هو جانب شهواته ، وعن شماله هو موضع نظره بقلبه وتحرزه فقد يغلبه الشيطان فيه ، وهذا فيمن جعل هذا في جهات ابن آدم الخاصة بيديه ، ومن الناس من جعلها في جهات أموره وشؤونه فيتسع التأويل على هذا .
كان حقّ فعل { تأتُوننا } أن يعدّى إلى جهة اليمين بحرف « مِن » فلما عُدّي بحرف { عن } الذي هو للمجاوزة تعين تضمين { تأتُونَنا } معنى « تصدوننا » ليُلائم معنى المجاوزة ، أي تأتوننا صادِّيننا عن اليمين ، أي عن الخير . فهذا وجه تفسير الآية الذي اعتمده ابن عطية والزمخشري وقد اضطرب كثير في تفسيرها . قال ابن عطية ما خلاصته : اضطرب المتأولون في معنى قولهم : { عَننِ اليمين } فعبر عنه ابن زيد وغيره بطريق الجنة ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا تختص بنفس اللفظة ، وبعضهم أيضاً نحا في تفسيره إلى ما يخص اللفظة فتحصل من ذلك معان منها : أن يريد باليمين القوة والشدة ( قلتُ وهو عن ابن عباس والفرّاء ) فكأنهم قالوا إنكم كنتم تُغْروننا بقوة منكم ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا : تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتُظهرون فيها أنها جهة الرشد ( وهو عن الزجاج والجبّائي ) ومما تحتمله الآية أن يريدوا : إنكم كنتم تأتوننا ، أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليُمْن ، فعبروا عنها باليمين ، ومن المعاني أن يريدوا : أنكم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر لأن جهة يمين الإِنسان فيها كبده وجهة شماله فيها قلبه وأن نظر الإِنسان في قلبه وقيل : تحلفون لنا اهـ .