المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قَالُوٓاْ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَأۡتُونَنَا عَنِ ٱلۡيَمِينِ} (28)

والقائلون { إنكم كنتم تأتونا عن اليمين } إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين وهذا قول مجاهد وابن زيد ، وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة ، واضطرب المتأولون في معنى قولهم { عن اليمين } وعبر ابن زيد وغيره عنه بطريقة الجنة والخير ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى لا تختص باللفظة وبعضهم أيضاً نحا في تفسير الآية إلى ما يخصها ، والذي يتحصل من ذلك معان منها أن يريد ب { اليمين } القوة والشدة فكأنهم قالوا إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة فعبر عن هذا المعنى ب { اليمين } كما قالت العرب «بيدين ما أورد »{[9840]} ، وكما قالوا «اليد » في غير موضع عن القوة ، وقد ذهب بعض الناس ببيت الشماخ هذا المذهب وهو قوله : { الوافر ]

إذا ما راية رفعت لمجد . . . تلقاها عرابة باليمين{[9841]}

فقالوا معناه بقوة وعزمة ، وإلا فكل أحد كان يتلقاها بيمينه ، لو كانت الجارحة ، وأيضاً فإنما استعار الراية للمجد فكذلك لم يرد باليمين الجارحة ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا { إنكم كنتم تأتوننا } من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم ويظهر فيها أنها جهة الرشد والصواب ، فتصير عندنا كاليمين التي بيمين السانح الذي يجيء من قبلها .

قال القاضي أبو محمد : فكأنهم شبهوا أقوال هؤلاء المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن التمويه في هذه الغوايات قد أظهر فيها ما يوشك أن يحمد به ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا إنكم كنتم تأتوننا أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن معبر عنها ب { اليمين } ، إذ اليمين هي الجهة ا لتي يتيمن بكل ما كان فيها ومنها{[9842]} .

ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا أنكم كنتم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر ، والجهة الثقيلة من الإنسان وهي جهة اليمين منه لأن كبده فيها ، وجهة شماله فيها قلبه وهي أخف ، وهذا معنى قول الشاعر :

تركنا لهم شق الشمال . . . . . . {[9843]}

أي زلنا لهم عن طريق الهروب ، لأن المنهزم إنما يرجع على شقه الأيسر إذ هو أخف شقيه ، وإذا قلب الإنسان في شماله وثم نظره فكأنه هؤلاء كانوا يأتون من جهة الشهوات والثقل .

قال القاضي أبو محمد : وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين وهو قلق مع إغواء بني آدم ، وقيل المعنى تحلفون لنا وتأتوننا إتيان من إذا حلف صدقناه .

قال القاضي أبو محمد : فاليمين على هذا القسم ، وقد ذهب بعض الناس في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله

{ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم }{[9844]} [ الأعراف : 17 ] إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات فقال ما بين يديه هي مغالطته فيما يراه ، وما خلفه هو ما يسارق فيه الخفاء ، وعن يمينه هو جانب شهواته ، وعن شماله هو موضع نظره بقلبه وتحرزه فقد يغلبه الشيطان فيه ، وهذا فيمن جعل هذا في جهات ابن آدم الخاصة بيديه ، ومن الناس من جعلها في جهات أموره وشؤونه فيتسع التأويل على هذا .


[9840]:المثل كما ذكره الميداني في (مجمع الأمثال):"بيدين ما أوردها زائدة"، والمراد باليد هنا: القوة والجلادة، يقال:"ما لي به يد، ومالي به يدان" أي: فوة. و(ما) صلة، و(زائدة) اسم رجل، والمعنى: بالقوة والجلادة أورد زائدة إبله لا بالعجز، قال الميداني:"ويجوز أن يريد بقوله:(بيدين) أنه ضبط يعمل بكلتا يديه، يضرب في الحث على استعمال الجد". وقال الزمخشري في (المستقصى في أمثال العرب):"(ما) زائدة، و(زائدة) اسم رجل، والضمير للإبل، يضرب لمن يباشر الأمر بقوة".
[9841]:استشهد الفراء بهذا البيت في (معاني القرآن)، قال:{تأتوننا عن اليمين}، يقول: كنتم تأتوننا من قبل الدين، أي تخدعوننا بأقوى الوجوه، و[اليمين]: القدرة والقوة، كقوله تعالى:{فراغ عليهم ضربا باليمين} أي: بالقوة والقدرة، وقال الشاعر: إذا ما غاية...البيت". والبيت للشماخ يمدح به عرابة الأوسي، وقبله يقول: رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين وعرابة هو ابن أوس بن قيظى، وقيل: إنه هو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق:{إن بيوتنا عورة}، وقد قيل: إن عرابة الأوسي من الصحابة، وقيل: بل كان سيدا ولكن ليس له صحبة، وقد كان أحد الذين عدوا من الصغار يوم أحد ولم يسمح لهم بالاشتراك في الحرب. هذا والبيت في اللسان أيضا(يَمَن).
[9842]:استعيرت اليمين لجهة الخير لأن اليد اليمنى أشرف العضوين، وكانوا يباشرون بها أفضل الأشياء كالمصافحة، ولهذا جعلت لكاتب الحسنات، ويأخذ المؤمن بها كتابة.
[9843]:يقول: تركنا لأعدائنا جانب الشمال، لأنه جانب الضعفاء الذين يهربون ويتركون المعركة. ولم نقف على بقية البيت ولا على نسبته.
[9844]:من الآية(17) من سورة (الأعراف).