مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُوٓاْ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَأۡتُونَنَا عَنِ ٱلۡيَمِينِ} (28)

قوله تعالى : { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين ، فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ، فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين ، إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ، بل جاء بالحق وصدق المرسلين إنكم لذائقوا العذاب الأليم ، وما تجرون إلا ما كنتم تعملون ، إلا عباد الله المخلصين }

واعلم أن الله تعالى لما حكى عنهم أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون شرح كيفية ذلك التساؤل فقال : { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } وهذا قول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة ، وفي تفسير اليمين وجوه الأول : أن لفظ اليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات ، وبيان كيفية هذه الاستعارة ، أن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر لوجوه أحدها : اتفاق الكل على أن أشرف الجانبين هو اليمين والثاني : لا يباشرون الأعمال الشريفة إلا باليمين مثل مصافحة الأخيار والأكل والشرب وما على العكس منه يباشرونه باليد اليسرى الثالث : أنهم كانوا يتفاءلون وكانوا يتيمنون بالجانب الأيمن ويسمونه بالبارح الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء الخامس : أن الشريعة حكمت بأن الجانب الأيمن لكاتب الحسنات والأيسر لكاتب السيئات السادس : أن الله تعالى وعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه ، والمسيء أن يؤتى كتابه بيساره ، فثبت أن الجانب الأيسر ، وإذا كان كذلك لا جرم ، استعير لفظ اليمين للخيرات والحسنات والطاعات ، فقوله : { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } يعني أنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون لنا أن مقصودكم من الدعوة إلى تلك الأديان نصرة الحق وتقوية الصدق والوجه الثاني : في التأويل أنه يقال فلان يمين فلان ، إذا كان عنده بالمنزلة الحسنة ، فقال هؤلاء الكفار لأئمتهم الذين أضلوهم وزينوا لهم الكفر : إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون لنا ، أننا عندكم بمنزلة اليمين ، أي بالمنزلة الحسنة ، فوثقنا بكم وقبلنا عنكم الوجه الثالث : أن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق ، فوثقوا بإيمانهم وتمسكوا بعهودهم التي عهدوها لهم ، فمعنى قوله : { كنتم تأتوننا عن اليمين } أي من ناحية المواثيق والأيمان التي قدمتموها لنا الوجه الرابع : أن لفظ اليمين مستعار من القوة والقهر ، لأن اليمين موصوفة بالقهر وبها يقع البطش ، والمعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر ، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتعيرونا عليه .