الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{قَالُوٓاْ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَأۡتُونَنَا عَنِ ٱلۡيَمِينِ} (28)

اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها ، فيها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون ، ويزاولون أكثر الأمور ، ويتشاءمون بالشمال ، ولذلك سموها : الشؤمى ، كما سموا أختها اليمنى ، وتيمنوا بالسانح ، وتطيروا بالبارح ، وكان الأعسر معيباً عندهم ، وعضدت الشريعة ذلك ، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين ، وأراذلها بالشمال . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء ، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيئات ؛ ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه ، والمسيء أن يؤتاه بشماله : استعيرت لجهة الخير وجانبه ، فقيل : أتاه عن اليمين ، أي : من قبل الخير وناحيته ، فصدّه عنه وأضلّه . وجاء في بعض التفاسير : من أتاه الشيطان من جهة اليمين : أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق . ومن أتاه من جهة الشمال : أتاه من قبل الشهوات . ومن أتاه من بين يديه : أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب . ومن أتاه من خلفه : خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده ؛ فلم يصل رحماً ولم يؤد زكاة .

فإن قلت : قولهم : أتاه من جهة الخير وناحيته ، مجاز في نفسه ، فكيف جعلت اليمين مجازاً عن المجاز ؟ قلت : من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق ، وهذا من ذاك ؛ ولك أن تجعلها مستعارة للقوّة والقهر ؛ لأنّ اليمين موصوفة بالقوة ، وبها يقع البطش . والمعنى : أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر ، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه . وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم ، والغواة لشياطينهم .