بعد هذا البيان يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا ، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم ، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب ، ويقفون لهذا الدين ، ويلقن الرسول [ ص ] أن ينذرهم ، ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين :
( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، وأولئك هم وقود النار . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا ، فأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب . قل للذين كفروا . ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل ، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم . وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك . . فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . . وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا وكفروا ، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا ، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين انجاهم الله منهم !
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم : إن سنة الله لا تتخلف . وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر . وليس لأحد على الله دالة ، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح !
( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، وأولئك هم وقود النار ) . .
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية ؛ ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه ، لأنه لا إخلاف لميعاد الله . وهم فيه : ( وقود النار ) . . بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص " الإنسان " ومميزاته ، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر ( وقود النار ) . .
لا بل إن الأموال والأولاد ، ومعهما الجاه والسلطان ، لا تغني شيا في الدنيا .
يخبر تعالى عن الكفار أنهم وقود النار ، { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 52 ] وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه ، بل كما قال تعالى : { وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 85 ] وقال تعالى : { لا{[4815]} يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 : 197 ] كما قال هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بآيات الله وكذبوا رسله ، وخالفوا كتابه ، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } أي : حطبها الذي تسجر به وتوقد به ، كقوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ] }{[4816]} [ الأنبياء : 98 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا ابن لَهِيعة ، أخبرني ابن الهاد ، عن هند بنت الحارث ، عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس قالت : بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ، فقال{[4817]} هل بلغت ، اللهم هل بلغت . . . " ثلاثًا ، فقام عمر بن الخطاب فقال : نعم . ثم أصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه ، وَلَتَخُوضُنَّ{[4818]} البحار بالإسلام ، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه ، ثم يقولون : قد قرأنا وعلمنا ، فمن هذا الذي هو خير منا ، فهل في أولئك من خير ؟ " قالوا : يا رسول الله ، فمن أولئك ؟ قال : " أولئك منكم{[4819]} وأولئك هم وقود النار " . وكذا رأيته بهذا اللفظ .
وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن هند بنت الحارث ، امرأة عبد الله بن شداد ، عن أم الفضل ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال : " هل بلغت " يقولها ثلاثا ، فقام عمر بن الخطاب - وكان أوَّاها - فقال : اللهم نعم ، وحرصتَ وجهدتَ ونصحتَ فاصبر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليظهرن الإيمان حتى يردّ الكفر إلى مواطنه ، وليخوضنّ رجال البحار بالإسلام{[4820]} وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن ، فيقرؤونه ويعلمونه ، فيقولون : قد قرأنا ، وقد علمنا ، فمن هذا الذي هو خير منا ؟ فما في أولئك من خير " قالوا : يا رسول الله ، فمن أولئك ؟ قال : " أولئك منكم ، وأولئك هم وقود النار " {[4821]} ثم رواه من طريق موسى بن عبيد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن بنت الهاد ، عن العباس بن عبد المطلب بنحوه .
هم الكفار الذين لا يقرون ببعث إنما هي على وجه الدهر وإلى يوم القيامة في زينة الدنيا وهي المال والبنون ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية ، أن ذلك المتهم فيه لا يغني عن صاحبه شيئاً ولا يمنعه من عذاب الله وعقابه ، و { من } في قوله : { من الله } لابتداء الغاية ، والإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي - بعد - متناولة كل كافر ، وقرأ أبو عبد الرحمن{[2979]} : «لن يغني » بالياء ، على تذكير العلامة ، والوقود بفتح الواو ما يحترق في النار من حطب ونحوه ، وكذلك هي قراءة جمهور الناس ، وقرا الحسن ومجاهد وجماعة غيرهما { وُقُود } بضم الواو وهذا على حذف مضاف تقديره ، حطب { وقود النار } ، والوقود بضم الواو المصدر ، وقدت النار تقد إذا اشتعلت ، والدأْب والدأَب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب - إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه ، ويقال للعادة - دأب - فالمعنى في الآية ، تشبيه هؤلاء في لزومهم الكفر ودوامهم عليه بأولئك المتقدمين ، وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب هؤلاء مثل ما أصاب أولئك من العقاب .