قوله تعالى : { وقرآناً فرقناه } ، قيل : معناه : أنزلناه نجوماً ، لم ينزل مرة واحدة ، بدليل قراءة ابن عباس : { وقرآناً فرقناه } بالتشديد ، وقراءة العامة بالتخفيف أي : فصلناه . وقيل : بيناه . وقال الحسن : معناه فرقنا به بين الحق والباطل ، { لتقرأه على الناس على مكث } أي : على تؤدة وترتيل وترسل في ثلاث وعشرين سنة ، { ونزلناه تنزيلاً } .
ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقا وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة ، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى . والتربية تتم في الزمن الطويل ، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل . جاء ليكون منهجا عمليا يتحقق جزءا جزءا في مرحلة الإعداد ، لا فقها نظريا ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني !
وتلك حكمة نزوله متفرقا ، لا كتابا كاملا منذ اللحظة الأولى .
ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى . تلقوه توجيها يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهى ، وكلما تلقوا منه أدبا أو فريضة . ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب ؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية . تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم ، وفي سلوكهم ونشاطهم . وفي بيوتهم ومعاشهم . فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه ، ومما عرفوه ، ومما مارسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن .
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن .
ولقد أنزل الله هذا القرآن قائما على الحق : ( وبالحق أنزلناه ) فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته : ( وبالحق نزل ) . . فالحق مادته والحق غايته . ومن الحق قوامه ، وبالحق اهتمامه . . الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود ، والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به ، متلبسا بهما ، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله ، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه . فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته . والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذي جاء به .
وقوله : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ } أما قراءة من قرأ بالتخفيف ، فمعناه : فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مُفرقًا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة . قاله عكرمة عن ابن عباس .
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال { فَرَقْنَاهُ } بالتشديد ، أي : أنزلناه آية آية ، مبينًا مفسرًا ؛ ولهذا قال : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ } أي : لتبلغه الناس وتتلوه عليهم { عَلَى مُكْثٍ } أي : مَهَل { وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } أي : شيئًا بعد شيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وبالحقّ أنزلنا هذا القرآن : يقول : أنزلناه نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة ، والأمور المستحسنة الحميدة ، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة ، والأخلاق الردية ، والأفعال الذّميمة وبالحَقّ نَزَلَ يقول : وبذلك نزل من عند الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : وَما أرْسَلْناكَ إلاّ مُبَشّرا وَنَذِيرا يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد إلى من أرسلناك إليه من عبادنا ، إلا مبشرا بالجنّة من أطاعنا ، فانتهى إلى أمرنا ونَهْينا ، ومنذرا لمن عصانا وخالف أمرنا ونهينَا . وَقُرآنا فَرَقْناهُ لَتَقْرأَهُ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار فَرَقْناهُ بتخفيف الراء من فرقناه ، بمعنى : أحكمناه وفصلناه وبيناه . وذُكر عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤه بتشديد الراء «فَرّقْناهُ » بمعنى : نزّلناه شيئا بعد شيء ، آية بعد آية ، وقصة بعد قصة .
وأولى القراءتين بالصواب عندنا ، القراءة الأولى ، لأنها القراءة التي عليها الحجة مجمعة ، ولا يجوز خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدين والقرآن . فإذا كان ذلك أولى القراءتين بالصواب ، فتأويل الكلام : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ، وفصلناه قرآنا ، وبيّناه وأحكمناه ، لتقرأه على الناس على مكث . وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل ، قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقُرآنا فَرَقْناهُ يقول : فصلناه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن أبي الربيع عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ : وَقُرآنا فَرَقْناهُ مخففا : يعني بيناه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس وَقُرآنا فَرَقْناهُ قال : فصلناه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا بدل بن المحبر ، قال : حدثنا عباد ، يعني ابن راشد ، عن داود ، عن الحسن أنه قرأ : وَقُرآنا فَرَقْناهُ خفّفها : فرق الله بين الحقّ والباطل .
وأما الذين قرأوا القراءة الأخرى ، فإنهم تأوّلوا ما قد ذكرت من التأويل . ذكر من قال ما حكيت من التأويل عن قارىء ذلك كذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كان ابن عباس يقرؤها : «وَقُرآنا فَرّقْناهُ » مثقلة ، يقول : أنزل آية آية .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ، قال : وَلا يَأْتُونَكَ بِمثَلٍ إلاّ جِئْناكَ بالحَقّ وأحْسَنَ تَفْسِيرا ، «وَقُرآنا فَرّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النّاسِ على مُكْثٍ وَنَزّلْناهُ تَنْزِيلاً » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : «وَقُرآنا فَرّقْناهُ لِتَقْرأهُ عَلى النّاسِ » لم ينزل جميعا ، وكان بين أوّله وآخره نحو من عشرين سنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «وَقُرآنا فَرّقْناهُ » قال : فرّقه : لم ينزله جميعه . وقرأ : وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً حتى بلغ وأحْسَنَ تَفْسِيرا يَنْقُض عليهم ما يأتون به .
وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول : نصب قوله وَقُرآنا بمعنى : ورحمة ، ويتأوّل ذلك : وَما أرسَلْناكَ إلاّ مُبَشّرَا وَنَذِيرا ورحمة ، ويقول : جاز ذلك ، لأن القرآن رحمة ، ونصبه على الوجه الذي قلناه أولى ، وذلك كما قال جلّ ثناؤه : والقَمَرَ قَدّرْناهُ مَنازِلَ وقوله : لِتَقْرَأهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ يقول : لتقرأه على الناس على تُؤَدة ، فترتله وتبينه ، ولا تعجل في تلاوته ، فلا يفهم عنك . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد المكُتِب ، قال : قلت لمجاهد : رجل قرأ البقرة وآل عمران ، وآخر قرأ البقرة ، وركوعهما وسجودهما واحد ، أيهما أفضل ؟ قال : الذي قرأ البقرة ، وقرأ : وَقُرآنا فَرَقْناه لِتَقْرَأَهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لِتَقْرَأهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ يقول : على تأييد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَلى مُكْثٍ قال : على ترتيل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : لِتَقْرأَهُ على النّاسِ عَلى مكث قال : في ترتيل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لِتَقْرَأَهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ قال : التفسير الذي قال الله وَرتّلِ القُرآنِ تَرْتيلاً : تفسيره .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبيد ، عن مجاهد ، قوله : لِتَقْرَأَهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ على تؤدة .
وفي المُكث للعرب لغات : مُكْث ، ومَكْث ، ومِكْث ومِكّيثي مقصور ، ومُكْثانا ، والقراءة بضمّ الميم .
وقوله : وَنَزّلناهُ تَنْزِيلاً يقول تعالى ذكره : فرقنا تنزيله ، وأنزلناه شيئا بعد شيء ، كما :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ، عن أبي رجاء ، قال : تلا الحسن : «وَقُرآنا فَرّقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزّلْناهُ تَنْزِيلاً » قال : كان الله تبارك وتعالى ينزل هذا القرآن بعضه قبل بعض لما علم أنه سيكون ويحدث في الناس ، لقد ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة سنة ، قال : فسألته يوما على سخطة ، فقلت : يا أبا سعيد «وَقُرآنا فَرّقْناهُ » فثقلها أبو رجاء ، فقال الحسن : ليس فرّقناه ، ولكن فرَقناه ، فقرأ الحسن مخففة . قلت : من يُحدثك هذا يا أبا سعيد أصحاب محمد ؟ قال : فمن يحدّثنيه قال : أنزل عليه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ثماني سنين ، وبالمدينة عشر سنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقُرآنا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزّلْناهُ تَنْزِيلاً لم ينزل في ليلة ولا ليلتين ، ولا شهر ولا شهرين ، ولا سنة ولا سنتين ، ولكن كان بين أوّله وآخره عشرون سنة ، وما شاء الله من ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : كان يقول : أنزل على نبيّ الله القرآن ثماني سنين ، وعشرا بعد ما هاجر . وكان قتادة يقول : عشرا بمكة ، وعشرا بالمدينة .
عطف على جملة { أنزلناه } [ الإسراء : 105 ] .
وانتصب { قرآناً } على الحال من الضمير المنصوب في { فرقناه } مقدمة على صاحبها تنويهاً الكون قرآناً ، أي كونه كتاباً مقروءاً . فإن اسم القرآن مشتق من القراءة ، وهي التلاوة ، إشارة إلى أنه من جنس الكلام الذي يحفظ ويتلى ، كما أشار إليه قوله تعالى : { تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } [ الحجر : 1 ] ، وقد تقدم بيانه . فهذا الكتاب له أسماء باختلاف صفاته فهو كتاب ، وقرآن ، وفرقان ، وذكر ، وتنزيل .
وتجري عليه هذه الأوصاف أو بعضها باختلاف المقام ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] وقوله : { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] باعتبار أن المقام للأمر بالتلاوة في الصلاة أو مطلقاً ، وإلى قوله : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } [ الفرقان : 1 ] في مقام كونه فارقاً بين الحق والباطل ، ولهذا لم يوصف من الكتب السماوية بوصف القرآن غيرُ الكتاب المنزل على محمد .
ومعنى { فرقناه } جعلناه فِرَقاً ، أي أنزلناه منجماً مفرقاً غير مجتمع صبُرة واحدة . يقال : فرق الأشياء إذا باعد بينها ، وفرق الصبرة إذا جزأها . ويطلق الفرق على البيان لأن البيان يشبه تفريق الأشياء المختلطة ، فيكون { فرقناه } محتملاً معنى بيناه وفصلناه ، وإذ قد كان قوله : { قرآناً } حالاً من ضمير { فرقناه } آل المعنى إلى : أنا فرقناه وأقرأناه .
وقد عُلل بقوله : { لتقرأه على الناس على مكث } . فهما علتان : أن يُقرأ على الناس وتلك علة لجعله قرآناً ، وأن يقرأ على مُكْث ، أي مَهل وبطء وهي علة لتفريقه .
والحكمة في ذلك أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين .
وجملة { ونزلناه تنزيلاً } معطوفة على جملة { وقرآنا فرقناه } . وفي فعل { نزلناه } المضاعف وتأكيده بالمفعول المطلق إشارة إلى تفريق إنزاله المذكور في قوله : { وبالحق أنزلناه } [ الإسراء : 105 ] .
وطوي بيان الحكمة للاجتزاء بما في قوله : لتقرأه على الناس على مكث } من اتحاد الحكمة . وهي ما صَرح به قوله تعالى : { كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا } [ الفرقان : 32 ] .
ويجوز أن يراد : فرقنا إنزاله رعياً للأسباب والحوادث . وفي كلام الوجهين إبطال لشبهتهم إذ قالوا : { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] .