التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا} (106)

ثم بين - سبحانه - الحكم التى من أجلها أنزل القرآن مفصلاً ومنجمًا ، فقال : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } .

ولفظ : { قرآنا } منصوب بفعل مضمر أى : وآتيناك قرآنا .

وقوله : { فرقناه } أى : فصلناه . أو فرقنا فيه بين الحق والباطل . أو أنزلناه منجمًا مفرقًا .

قال الجمل : وقراءة العامة { فرقناه } بالتخفيف . أى : بينا حلاله وحرامه . . .

وقرأ على وجماعة من الصحابة وغيرهم بالتشديد وفيه وجهان : أحدهما : أن التضعيف للتكثير . أى : فرقنا آياته بين أمر ونهى وحكم وأحكام .

ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار . والثانى : أنه دال على التفريق والتنجيم .

وقوله { على مكث } أى : على تؤدة وتمهل وحسن ترتيل ، إذ المكث التلبث فى المكان ، والإِقامة فيه انتظارًا لأمر من الأمور .

والمعنى : " ولقد أنزلنا إليك - أيها الرسول - هذا القرآن ، مفصلاً فى أوامره ونواهيه ، وفى أحكامه وأمثاله . . . ومنجما فى نزوله لكى تقرأه على الناس على تؤدة وتأن وحسن ترتيل ، حتى يتيسر لهم حفظه بسهولة ، وحتى يتمكنوا من تطبيق تشريعاته وتوجيهاته تطبيقًا عمليًا دقيقًا .

وهكذا فعل الصحابة - رضى الله عنهم - : فإنهم لم يكن القرآن بالنسبة لهم متعة عقلية ونفسية فحسب ، وإنما كان القرآن بجانب حبهم الصادق لقراءته وللاستماع إليه منهجًا لحياتهم ، يطبقون أحكامه وأوامره ونواهيه وآدابه . . . فى جميع أحوالهم الدينية والدنيوية .

قال أبو عبد الرحمن السلمى : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ، أنهم كانوا يستقرئون عن النبى صلى الله عليه وسلم ، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتركوها حتى يعملوا بما فيها " فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا " .

وقوله - سبحانه - : { ونزلناه تنزيلاً } أى : ونزلناه تنزيلاً مفرقًا منجمًا عليك يا محمد فى مدة تصل إلى ثلاث وعشرين سنة ، على حسب ما تقتضيه حكمتنا ، وعلى حسب الحوادث والمصالح ، وليس من أجل تيسير حفظه فحسب .