( ثم سواه ، ونفخ فيه من روحه ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) . .
يا الله . ما أضخم الرحلة ! وما أبعد الشقة ! وما أعظم المعجزة التي يمر عليها الناس غافلين !
أين تلك النقطة الصغيرة المهينة من ذلك الإنسان الذي تصير إليه في النهاية ، لولا أنها يد الله المبدعة التي تصنع هذه الخارقة . والتي تهدي تلك النقطة الصغيرة الضعيفة إلى اتخاذ طريقها في النمو والتطور والتحول من هيئتها الساذجة إلى ذلك الخلق المعقد المركب العجيب ?
هذا الانقسام في تلك الخلية الواحدة والتكاثر . ثم التنويع في أصناف الخلايا المتعددة ذات الطبيعة المختلفة ، والوظيفة المختلفة ؛ التي تتكاثر هي بدورها لتقوم كل مجموعة منها بتكوين عضو خاص ذي وظيفة خاصة . وهذا العضو الذي تكونه خلايا معينة من نوع خاص ، يحتوي بدوره على أجزاء ذات وظائف خاصة وطبيعة خاصة ، تكونها خلايا أكثر تخصصا في داخل العضو الواحد . . هذا الانقسام والتكاثر مع هذا التنويع كيف يتم في الخلية الأولى وهي خلية واحدة ? وأين كانت تكمن تلك الخصائص كلها التي تظهر فيما بعد في كل مجموعة من الخلايا المتخصصة الناشئة من تلك الخلية الأولى ? ثم أين كانت تكمن الخصائص المميزة لجنين الإنسان من سائر الأجنة ? ثم المميزة لكل جنين إنساني من سائر الأجنة الإنسانية ? ثم الحافظة لكل ما يظهر بعد ذلك في الجنين من استعدادات خاصة ، ووظائف معينة ، وسمات وشيات طوال حياته ? !
ومن ذا الذي كان يمكن أن يتصور إمكان وقوع هذه الخارقة العجيبة لولا أنها وقعت فعلا وتكرر وقوعها ?
إنها يد الله التي سوت هذا الإنسان ؛ وإنها النفخة من روح الله في هذا الكيان . . إنها التفسير الوحيد الممكن لهذه العجيبة التي تتكرر في كل لحظة ، والناس عنها غافلون . . ثم هي النفخة من روح الله التي جعلت من هذا الكائن العضوي إنسانا ذا سمع وذا بصر وذا إدراك إنساني مميز من سائر الكائنات العضوية الحيوانية : ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) . . وكل تعليل آخر عاجز عن تفسير تلك العجيبة التي تواجه العقل البشري بالحيرة الغامرة التي لا مخرج منها بغير ذلك التفسير .
ومع كل هذا الفيض من الفضل . الفضل الذي يجعل من الماء المهين ذلك الإنسان الكريم . الفضل الذي أودع تلك الخلية الصغيرة الضعيفة كل هذا الرصيد من القدرة على التكاثر والنماء ، والتطور والتحول ، والتجمع والتخصص . ثم أودعها كل تلك الخصائص والاستعدادات والوظائف العليا التي تجعل من الإنسان إنسانا . . مع كل هذا الفيض فإن الناس لا يشكرون إلا في القليل : ( قليلا ما تشكرون ) . .
{ ثُمَّ سَوَّاهُ } يعني : آدم ، لما خلقه من تراب خلقه سويا مستقيما ، { وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ } ، يعني : العقول ، { قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي : بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل . {[23061]} فالسعيد مَنْ استعملها في طاعة ربه عز وجل .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم سوّى الإنسان الذي بدأ خلقه من طين خلقا سويا معتدلاً ، ونَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فصار حيا ناطقا وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ والأبْصَارَ والأفْئِدَةَ ، قَلِيلاً ما تشْكُرُونَ يقول : وأنعم عليكم أيها الناس ربكم بأن أعطاكم السمع تسمعون به الأصوات ، والأبصار تبصرون بها الأشخاص والأفئدة ، تعقلون بها الخير من السوء ، لتشكروه على ما وهب لكم من ذلك . وقوله : قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ يقول : وأنتم تشكرون قليلاً من الشكر ربكم على ما أنعم عليكم .
وقوله { ونفخ } عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم ، والضمير في { روحه } لله تعالى ، وهي إضافة ملك إلى ملك وخلق إلى خالق ، ثم أظهر تعديد النعم عليهم في أن خصهم في قوله { لكم } بضمير{[9415]} { السمع والأبصار والأفئدة } وهي لمن تقدم ذكره أيضاً{[9416]} كما خص آدم بالتسوية ونفخ الروح وهو لجميع ذريته ، وهذا كله إيجاز واقتضاب وترك لما يدل عليه المنطوق به .
ويحتمل أن يكون { الإنسان } في هذه الآية اسم الجنس ، وقوله تعالى : { قليلاً } صفة لمصدر محذوف ، وهو في موضع الحال حين حذف الموصوف به .
والتسوية : التقويم ، قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] . والضمير المنصوب في { سَوّاه } عائد إلى { نسله } لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف ب { ثم } وإن كان آدم قد سُوِّي ونفخ فيه من الروح ، قال تعالى : { فإذا سَوّيتُه ونفختُ فيه من روحي فَقَعُوا له ساجدين } [ ص : 72 ] . وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك ، فالكلام إيجاز .
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى ، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصاً بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله .
والنفخ : تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فإذا سوّيته ونفخْتُ فيه من رُوحي } في سورة الحجر ( 29 ) .
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله : وجعل لكم } التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجَعْل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريق الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يُلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثرُ بالامتنان وأسعدُ بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله { قليلاً ما تشكرون } . والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره .
والعدول عن أن يقال : وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى { جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } لأن ذلك أعرق في الفصاحة ، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلاً لفائدتهم ولأجلهم ، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف ، ولأن كلمة { الأفئدة } أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعضٌ منها .
وأفرد { السَّمع } لأنه مصدر لا يجمع ، وجمع { الأبصار والأفئدة } باعتبار تعدد الناس . وتقديم السمع على البصر تقدّم وجهه عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } في سورة البقرة ( 7 ) . وتقديم السمع والأبصار } على { الأفئدة } هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل .
و { قليلاً } اسم فاعل منتصب على الحال من ضمير { لكم ، } و { ما تشكرون } في تأويل مصدر وهو مرتفع على الفاعلية ب { قليلاً ، } أي : أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة وحالكم قلة الشكر . ثم يجوز أن يكون { قليلاً } مستعملاً في حقيقته وهي كون الشيء حاصلاً ولكنه غير كثير . ويجوز أن يكون كناية عن العدم كقوله تعالى : { فلا يؤمنون إلا قليلاً } [ النساء : 46 ] . وعلى الوجهين يحصل التوبيخ لأن النعم المستحقة للشكر وافرة دائمة فالتقصير في شكرها وعدمُ الشكر سواء .