إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (9)

{ ثُمَّ سَوَّاهُ } أي عدَّله بتكميلِ أعضائِه في الرَّحمِ وتصويرِها على ما ينبغِي { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } أضافَه إليه تعالى تَشريفاً له وإيذاناً بأنَّه خلقٌ عجيبٌ وصنعٌ بديعٌ وأنَّ له شأناً له مناسبةٌ إلى حضرةِ الرُّبوبيةِ وأنَّ أقصى ما تنتهي إليه العقولُ البشريةُ من معرفتِه هذا القدرُ الذي يُعبر عنه تارةً بالإضافةِ إليه تعالى وأُخرى بالنسبةِ إلى أمرهِ تعالى كما في قولِه تعالى : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّي } [ سورة الإسراء ، الآية85 ] { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } الجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به والتقديمُ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراتٍ من الاهتمامِ بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ مع ما فيهِ من نوعِ طولٍ يخل تقديُه بجزالةِ النَّظمِ الكريمِ ، أي خلق لمنفعتِكم تلك المشاعرَ لتعرفُوا أنها -مع كونِها في أنفسِها نعماً جليلةً لا يُقادر قدرُها -وسائلُ إلى التَّمتعِ بسائرِ النِّعمِ الدِّينية والدُّنيويةِ الفائضةِ عليكم وتشكروها بأنْ تصرفُوا كلاًّ منها إلى ما خُلق هو له فتُدركوا بسمعِكم الآياتِ التنزيليةَ الناطقةَ بالتَّوحيدِ والبعثِ وبأبصارِكم الآياتِ التكوينيةَ الشاهدةَ بهما وتستدلُّوا بأفئدتِكم على حقِّيَّتهِما . وقولُه تعالى : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } بيانٌ لكفرِهم بتلك النِّعمِ بطريقِ الاعتراضِ التَّذييليِّ على أنَّ القِلَّةَ بمعنى النَّفيِ كما يُنبئ عنه ما بعده أيُ شكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تشكرون . وفي حكايةِ أحوالِ الإنسانِ من مبدأِ فطرتِه إلى نفخِ الرُّوح فيه بطريقِ الغَيبةِ وحكايةِ أحوالِه بعد ذلك بطريقِ الخطابِ المنبئ عن استعدادِه للفهمِ وصلاحيتِه له من الجَزَالةِ ما لا غايةَ وراءَهُ .