قوله تعالى : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس } ، أي : يمطرون ، من الغيث : وهو المطر . وقيل : ينقذون من قول العرب استغثت فلانا فأغاثني ، { وفيه يعصرون } ، قرأ حمزة والكسائي : { يعصرون } ، بالتاء ، لأن الكلام كله على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء ردا إلى الناس ، ومعناه : يعصرون العنب خمرا والزيتون زيتا والسمسم دهنا . وأراد به كثرة النعيم والخير . وقال أبو عبيدة : يعصرون أي ينجون من الكروب والجدب ، والعصر والعصرة : المنجاة والملجأ .
( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ) . .
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة ، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب . تنقضي ويعقبها عام رخاء ، يغاث الناس فيه بالزرع والماء ، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا ، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتا . .
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك ؛ فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف . فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس ، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد .
هذه الرؤيا من مَلك مصر مما قَدّر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسفَ ، عليه السلام ، من السجن مُعزَّزًا مكرما ، وذلك أن المَلك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتَعجَّب من أمرها ، وما يكون تفسيرها ، فجمع الكهنة والحُزَاة وكبراء دولته وأمراءه وقَصَّ عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا إليه بأن هذه { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ } أي : أخلاط اقتضت رؤياك هذه{[15192]} { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ } أي : ولو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط ، لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها . فعند ذلك تَذَكَّرَ ذلك الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين{[15193]} كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف ، من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : مدة - وقرأ بعضهم : " بعد أَمِةٍ " أي : بعد نسيان ، فقال للملك والذين جمعهم لذلك : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتأويل هذا المنام ، { فَأَرْسِلُونِ } أي : فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن . ومعنى الكلام : فبعثوا{[15194]} فجاء . فقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا } وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند ذلك ذكر له يوسف ، عليه السلام ، تعبيرها من غير تعنيف لذلك الفتى في نسيانه ما وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } أي{[15195]} يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، ففسر البقر بالسنين ؛ لأنها تثير الأرض التي تُسْتغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر ، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي : مهما استغللتم{[15196]} في هذه السبع السنين الخصب فاخزنوه في سنبله ، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه ، إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه ، لتنتفعوا في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المُحْل التي تعقب هذه السبع متواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي يأكلن السِّمان ؛ لأن سني{[15197]} الجَدْب يؤكل فيها ما جَمَعَوه في سني{[15198]} الخصب ، وهن السنبلات اليابسات .
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ }
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } أي : يأتيهم الغيث ، وهو المَطرُ ، وتُغل البلاد ، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم ، من زيت ونحوه ، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل{[15199]} فيه حلب اللبن أيضًا .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يحلبون .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } .
وهذا خبر من يوسف عليه السلام للقوم عما لم يكن في رؤيا ملكهم ، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله دلالة على نبوّته وحجة على صدقة . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : ثم زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها ، فقال : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ .
ويعني بقوله : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ بالمطر والغيث .
وبنحو ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ قال : فيه يغاثون بالمطر .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ قال : بالمطر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ قال : أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه ، وكان الله قد علّمه إياه عام فيه يغاث الناس بالمطر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ بالمطر .
وأما قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : وفيه يعصرون العنب والسمسم وما أشبه ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : الأعناب والدهن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ السمسم دهنا ، والعنب خمرا ، والزيتون زيتا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يقول : يصيبهم غيث ، فيعصرون فيه العنب ، ويعصرون فيه الزيت ، ويعصرون من كلّ الثمرات ،
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : يعصرون أعنابهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : العنب .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : كانوا يعصرون الأعناب والثمرات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : يعصرون الأعناب والزيتون والثمار من الخصب ، هذا علم آتاه الله يوسف لم يسئل عنه .
وقال آخرون : معنى قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ وفيه يحلبون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني فضالة ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : فيه يحلبون .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا الفرج بن فضالة ، عن عليّ بن أبي طلحة ، قال : كان ابن عباس يقرأ : «وَفِيهِ تَعْصِرُونَ » بالتاء ، يعني تحتلبون .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض أهل المدينة والبصرة والكوفة : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ بالياء ، بمعنى ما وصفت من قول من قال : عصر الأعناب والأدهان . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «وَفِيهِ تَعْصِرُونَ » بالتاء . وقرأه بعضهم : «وَفِيهِ يَعْصَرُونَ » بمعنى : يُمطرون ، وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها ما عليه من قرّاء الأمصار .
والصواب من القراءة في ذلك أن لقارئه الخيار في قراءته بأيّ القراءتين الأخريين شاء ، إن شاء بالياء ردّا على الخبر به عن الناس ، على معنى : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أعْنابهم وأدهانهم . وإن شاء بالتاء ردّا على قوله : إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ وخطابا به لمن خاطبه بقوله : يَأْكُلْنَ ما قَدّمْتُمْ لَهُنّ إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ لأنهما قراءتان مستفيضتان في قِرَاءَة الأمصار باتفاق المعنى ، وإن اختلفت الألفاظ بهما . وذلك أن المخاطبين بذلك كان لا شكّ أنهم أغيثوا وعصروا : أغيث الناس الذين كانوا بناحيتهم وعصروا ، وكذلك كانوا إذا أغيث الناس بناحيتهم وعصروا ، أغيث المخاطبون وعصروا ، فهما متفقتا المعنى ، وإن اختلفت الألفاظ بقراءة ذلك . وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب يوجه معنى قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ إلى : وفيه يَنْجون من الجدب والقحط بالغيث ، ويزعم أنه من العَصر والعصر التي بمعنى المنجاة ، من قول أبي زبيد الطائي :
صَادِيا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ *** وَلَقَدْ كانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ
فباتَ وأسْرَى القَوْمُ آخِرَ لَيْلهِمْ *** وَما كانَ وَقّافا بغَيْرِ مُعَصّرِ
وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين . وأما القول الذي روى الفَرج بن فضالة عن عليّ بن أبي طلحة ، فقول لا معنى له ، لأنه خلاف المعروف من كلام العرب وخلاف ما يعرف من قول ابن عباس رضي الله عنهما .
{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس } يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث . { وفيه يعصرون } ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار . وقيل يحلبون الضروع . وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي ، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا ، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر . وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب ، أو بأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم .
أما قوله : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس } فهو بشارة وإدخال المسرة والأمل بعد الكلام المؤيس ، وهو من لازم انتهاء مدة الشدة ، ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر .
و { يغاث } معناه يعطون الغيث ، وهو المطر . والعصر : عصر الأعناب خموراً . وتقدم آنفاً في قوله : { أعصر خمراً } [ سورة يوسف : 36 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم يأتي من بعد ذلك}، يعني: من بعد السنين المجدبات،
{عام فيه يغاث الناس}، يعني: أهل مصر بالمطر،
{وفيه يعصرون}، العنب، والزيت من الخصب، هذا من قول يوسف، وليس من رؤيا الملك، فرجع الرسول فأخبره فعجب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا خبر من يوسف عليه السلام للقوم عما لم يكن في رؤيا ملكهم، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله دلالة على نبوّته وحجة على صدقة... ويعني بقوله:"فِيهِ يُغاثُ النّاسُ" بالمطر والغيث...
وأما قوله: "وَفِيهِ يَعْصِرُونَ "فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: وفيه يعصرون العنب والسمسم وما أشبه ذلك...
وقال آخرون: معنى قوله: "وَفِيهِ يَعْصِرُونَ": وفيه يحلبون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) قال بعضهم: هو من الغيث وهو المطر، أي يمطرون. وقيل يغاثون بالمطر من الإغاثة والغوث.
(وفيه يعصرون) قال بعضهم: هو من عصر الأعناب والدهن والزيت وغيره، إنما هو إخبار عن الخصب والسعة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فيه يغاث الناس" فالغوث: النفع الذي يأتي على شدة حاجة ينفي المضرة، والغيث: المطر الذي يجيئ في وقت الحاجة... والغيث: الكلأ الذي ينبت من ماء السماء وجمعه غيوث...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم زادهم على ذلك قوله: {ثم يأتي} وعبر بالجار لمثل ما مضى فقال: {من بعد ذلك} أي الجدب العظيم {عام} وهو اثنا عشر شهراً، ونظيره الحول والسنة، وهو مأخوذ من العوم -لما لأهله فيه من السبح الطويل- قاله الرماني. والتعبير به دون مرادفاته إشارة إلى أنه يكون فيه -من السعة بعموم الريّ وظهور الخصب وغزير البركة- أمر عظيم، ولذا اتبعه بقوله: {فيه}. ولما كان المتشوف إليه الإغاثة، على أنه من المعلوم أنه لا يقدر عليها إلا الله، قال بانياً للمفعول: {يغاث الناس} من الغيث وهو المطر، أو من الغوث وهو الفرج، ففي الأول يجوز بناءه من ثلاثي ومن رباعي، يقال غاث الله الأرض وأغاثها: أمطرها، وفي الثاني هو من رباعي خاصة، يقال: استغاث به فأغاثه، من الغوث وهو واوي، ومعناه النفع الذي يأتي على شدة حاجته بنفي المضرة، والغيث يائي وهو المطر الذي يأتي في وقت الحاجة {وفيه} أي ذلك العام الحسن. ولما كان العصر للأدهان وغيرها لا يكون إلا عن فضله، قال: {يعصرون} أي يخرجون عصارات الأشياء وخلاصاتها، وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة، فجاء الرسول فأخبر الملك بذلك، فأعجبه ووقع في نفسه صدقه...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{عَامٌ} هو كالسنة لكن كثيراً ما يستعمل فيما فيه الرخاء والخصب، والسنة فيما فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، وكأنه تحاشياً عن ذلك وتنبيهاً من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق عبر به دون السنة... وتكرير (فيه) إما كما قيل: للإشعار باختلاف [أوقات] ما يقع فيه زماناً وعنواناً، وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام، ولأجله قدم في الموضعين على العامل فإن المقام بيان أنه يقع في ذلك العام هذا وذاك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ثم يأتي من بعد ذلك} الذي ذكر وهو السبع الشداد {عام فيه يغاث الناس} أي فيه يغيثهم الله تعالى من الشدة اسم الإغاثة وأوسعها وهي تشمل جميع أنواع المعونة بعد الشدة: يقال: غاثه يغوثة غوثا وغواثا [بالفتح] وأغاثه إغاثة إذا أعانه ونجاه، وغوّث الرجل: قال "واغوثاه "واستغاث ربه استنصر وسأله الغوث، ويجوز أن يكون من الغيث وهو المطر إذ يقال غاث الله البلاد غيثا وغياثا إذا أنزل فيها المطر، والأول أعم وهو المتبادر هنا، ولا يقال إن الثاني لا يصح، لأن خصب مصر يكون بفيضان النيل لا بالمطر فإن فيضانه لا يكون إلا من المطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان، فاعتراض بعض المستشرقين من الإفرنج وزعمه أن الكلمة من الغيث وأنها غير جائزة جهل زينه لهم الشيطان تلذذا بالاعتراض على لغة القرآن.
{وفيه يعصرون} ما شأنه أن يعصر من الأدهان التي يأتدمون بها ويستصبحون كالزيت من الزيتون والقرطم وغيره، والشيرج من السمسم وغير ذلك، والأشربة من القصب والنخيل والعنب. والمراد أن هذا العام عظيم الخصب والإقبال، يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة والإتراف، والإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأول بعد سني الشدة والجدب دون ذلك، فهذا التخصيص والتفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله عز وجل لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إذا واظبتم على هذه الخطّة فحينئذ لا خطر يهدّدكم لأنّه (ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس).. و (يغاث الناس) أي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا فحسب، بل (فيه يعصرون) المحاصيل لاستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها.. الخ. ملاحظات:
ـ كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقاً ومحسوباً، حيث كانت البقرة في الأساطير القديمة مظهر «السنة».. وكون البقرات سماناً دليل على كثرة النعمة، وكونها عجافاً دليل على الجفاف والقحط، وهجوم السبع العجاف على السبع السّمان كان دليلا على أن يُستفاد من ذخائر السنوات السابقة. وسبع سنبلات خضر وقد أحاطت بها سبع سنبلات يابسات تأكيد آخر على هاتين الفترتين فترة النعمة وفترة الشدّة. إضافةً إلى انّه أكّد له على هذه المسألة الدقيقة، وهي خزن المحاصيل في سنابلها لئلاّ تفسد بسرعة وليكون حفظها إلى سبع سنوات ممكناً. وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكلّ منهما دليل آخر على انتهاء الجفاف والشدّة مع انتهاء تلك السنوات السبع.. وبالطبع فإنّ سنةً سيأتي بعد هذه السنوات سنة مليئة بالخيرات والأمطار، فلابدّ من التفكير للبذر في تلك السنة وأن يحتفظوا بشيء ممّا يخزن لها. في الحقيقة لم يكن يوسف مفسّراً بسيطاً للأحلام، بل كان قائداً يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، وقد قدّم مقترحاً من عدّة مواد لخمسة عشر عاماً على الأقل، وكما سنرى فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته وكان سبباً لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وأن ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أُخرى.
مرّة أُخرى تعلِّمنا هذه القصّة هذا الدرس الكبير وهو أنّ قدرة الله أكبر ممّا نتصوّر، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم أن ينقذ اُمّة كبيرة من فاجعة عظيمة، ويخلّص عبده الخالص بعد سنين من الشدائد والمصائب أيضاً. فلابدّ أن يرى الملك هذه الرؤيا، ولابدّ أن يحضر الساقي عنده يتذكّر رؤياه في السجن، وترتبط أخيراً حوادث مهمّة بعضها ببعض، فالله تعالى هو الذي يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأُمور. أجل، ينبغي لنا توكيد ارتباطنا القلبي مع هذا الربّ القادر.
الأحلام المتعدّدة في هذه السورة، من رؤيا يوسف نفسه إلى رؤيا السجينين إلى رؤيا فرعون مصر، والاهتمام الكبير الذي كان يوليه أهل ذلك العصر بالنسبة لتعبير الرؤيا أساساً، يدلّ على أنّ تعبير الرؤيا في ذلك العصر كان من العلوم المتقدّمة، وربّما وجب ـ لهذا السبب ـ أن يكون نبي ذلك العصر ـ أي (يوسف) ـ مطّلعاً على مثل هذا العلم إلى درجة عالية بحيث يعدّ إعجازاً منه. أليست معاجز الأنبياء يجب أن تكون من أبرز العلوم في زمانهم، ليحصل اليقين ـ عند العجز من قبل علماء العصر ـ بأنّ مصدر العلم الذي يحمله نبيّهم هو الله!...