قوله تعالى : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم }الساعة { عالم الغيب } قرأ أهل المدينة والشام : عالم بالرفع على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب ، أي : وربي عالم الغيب ، وقرأ حمزة والكسائي : علام على وزن فعال ، وجر الميم . { لا يعزب } لا يغيب ، { عنه مثقال ذرة } وزن ذرة { في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك } أي : من الذرة . { ولا أكبر إلا في كتاب مبين* }
وبعد تقرير تلك الحقيقة في تلك الصورة الرائعة الواسعة المدى الفسيحة المجال يحكي إنكار الذين كفروا بمجيء الساعة ؛ وهم القاصرون الذين لا يعلمون ماذا يأتيهم به الغد والله هو العليم بالغيب الذي لا يند عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض ؛ والساعة لا بد منها ليلاقي المحسن والمسيء جزاء ما قدما في هذه الأرض :
( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة : قل : بلى وربي لتأتينكم ، عالم الغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) . .
وإنكار الذين كفروا للآخرة ناشيء من عدم إدراكهم لحكمة الله وتقديره . فحكمة الله لا تترك الناس سدى ، يحسن منهم من يحسن ويسيء منهم من يسيء ؛ ثم لا يلقى المحسن جزاء إحسانه ، ولا يلقى المسيء جزاء إساءته . وقد أخبر الله على لسان رسله : أنه يستبقي الجزاء كله أو بعضه للآخرة . فكل من يدرك حكمة الله في خلقه يدرك أن الآخرة ضرورية لتحقيق وعد الله وخبره . . ولكن الذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة .
ومن ثم يقولون قولتهم هذه : ( لا تأتينا الساعة ) . . فيرد عليهم مؤكداً جازماً : ( قل : بلى وربي لتأتينكم ) . . وصدق الله تعالى وصدق رسول الله - عليه صلوات الله - وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله ، ويجزمون بما لا علم لهم به . والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو : عالم الغيب . . فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين .
ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة ، تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر ، لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور :
( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ؛ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .
ومرة أخرى نقول : إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية . وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء . فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة : ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . . . ) . . ولست أعرف في كلام البشر إتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل . فهو الله ، سبحانه ، الذي يصف نفسه ، ويصف علمه ، بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر ! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال .
وأقرب تفسير لقوله تعالى : ( إلا في كتاب مبين )أنه علم الله الذي يقيد كل شيء ، ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .
ونقف أمام لفتة في قوله تعالى : مثقال ذرة . . . ولا أصغر من ذلك . والذرة كان معروفاً - إلى عهد قريب - أنها أصغر الأجسام . فالآن يعرف البشر - بعد تحطيم الذرة - أن هناك ما هو أصغر من الذرة ، وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك ! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء .
مجيء الساعة حتماً وجزماً ، وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة :
هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن ، مما أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لَمَّا أنكره مَنْ أنكره من أهل الكفر والعناد ، فإحداهن في سورة يونس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [ يونس : 53 ] ، والثانية هذه : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ، والثالثة في التغابن : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] ، فقوله : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ }{[24147]} ، ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره : { عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } .
قال مجاهد وقتادة : { لا يَعْزُبُ عَنْهُ } لا يغيب عنه ، أي : الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه منه شيء ، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت ، فهو عالم أين ذهبت وأين{[24148]} تفرقت ، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة ، فإنه بكل شيء عليم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : ويستعجلك يا محمد الذين جحدوا قُدرة الله على إعادة خلقه بعد فنائهم بهيئتهم التي كانوا بها من قبل فنائهم من قومك بقيام الساعة ، استهزاء بوعدك إياهم ، وتكذيبا لخبرك ، قل لهم : بلى تأتيكم وربي ، قسما به لتأتينكم الساعة ، ثم عاد جلّ جلاله بعد ذكره الساعة على نفسه ، وتمجيدها ، فقال : عالِمِ الغَيْبِ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : «عالِمُ الغَيْبِ » على مثال فاعل ، بالرفع على الاستئناف ، إذ دخل بين قوله : وَرَبّي ، وبين قوله : عالِمَ الغَيْبِ كلام حائل بينه وبينه . وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة والبصرة ، عالم على مثال فاعل ، غير أنهم خفضوا عالم ردّا منهم له على قوله وَرَبّي إذ كان من صفته . وقرأ ذلك بقية عامة قرّاء الكوفة : «عَلاّمِ الغَيْبِ » على مثال فعّال ، وبالخفض ردّا لإعرابه على إعراب قوله وَرَبّي إذ كان من نعته .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن كلّ هذه القراءات الثلاث ، قراءات مشهورات في قرّاء الأمصار متقاربات المعاني ، فبأيتهنّ قرأ القارىء فمصيب غير أن أعجب القراءات في ذلك إليّ أقرأ بها : «عَلاّمِ الغَيْبِ » على القراءة التي ذكرتها عن عامة قرّاء أهل الكوفة فأما اختيار علام على عالم ، فلأنها أبلغ في المدح . وأما الخفض فيها فلأنها من نعت الربّ ، وهو في موضع الجرّ . وعنى بقوله : «عَلاّم الغَيْبِ » علام ما يغيب عن أبصار الخلق ، فلا يراه أحد ، إما ما لم يكوّنه مما سيكوّنه ، أو ما قد كوّنه فلم يُطلع عليه أحدا غيره . وإنما وصف جلّ ثناؤه في هذا الموضع نفسه بعلمه الغيب ، إعلاما منه خلقه أن الساعة لا يعلم وقت مجيئها أحد سواه ، وإن كانت جائية ، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل للذين كفروا بربهم : بلى وربكم لتأتينكم الساعة ، ولكنه لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى علام الغيوب ، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يغيب عنه ، ولكنه ظاهر له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : لا يَعْزُبُ عَنْهُ يقول : لا يغيب عنه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لا يَعْزُبُ عَنْهُ قال : لا يغيب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرّةٍ : أي لا يغيب عنه .
وقد بيّنا ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : مِثْقالُ ذَرّةٍ يعني : زنة ذرّة في السموات ولا في الأرض يقول تعالى ذكره : لا يغيب عنه شيء من زنة ذرّة فما فوقها فما دونها ، أين كان في السموات ولا في الأرض وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ يقول : ولا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرّة وَلا أكْبَرُ منه إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ يقول : هو مثبت في كتاب يبين للناظر فيه أن الله تعالى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلمه ، فلم يعزب عن علمه .
{ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } إنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاء بالوعد به . { قل بلى } رد لكلامهم وإثبات لما نفوه . { وربي لتأتينكم عالم الغيب } تكرير لإيجابه مؤكدا بالقسم مقررا لوصف القسم به بصفات تقرر إمكانه وتنفي استبعاده على ما مر غير مرة ، وقرأ حمزة والكسائي " علام الغيب " للمبالغة ، ونافع وابن عمر ورويس " عالم الغيب " بالرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } وقرأ الكسائي " لا يعزب " بالكسر . { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } جملة مؤكدة لنفي العزوب ، ورفعهما بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على نفي الجنس ، ولا يجوز عطف المرفوع على { مثقال } والمفتوح على { ذرة } بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف لان الاستثناء يمنعه ، اللهم إلا إذا جعل الضمير في { عنه } للغيب وجعل المثبت في اللوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شيء إلا مسطورا في اللوح .
روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب ، وقال اللات والعزى ما ثم ساعة تأتي ولا قيامة ولا حشر فأمر الله تعالى نبيه أن يقسم بربه مقابلة لقسم أبي سفيان قبل رداً وتكذيباً وإيجاباً لما نفاه وأجاز نافع الوقف على { بلى } وقرأ الجمهور «لتأتينكم » بالتاء من فوق ، وحكى أبو حاتم قراءة «ليأتينكم » بالياء على المعنى في البعث .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بخلاف «عالمِ » بالخفض على البدل من { ربي } ، وقرأ نافع وابن عامر «عالمُ » بالرفع على القطع ، أي هو عالم ، ويصح أن يكون «عالم » رفع بالابتداء وخبره { لا يعزب } وما بعده ، ويكون الإخبار بأن العالم لا يعزب عنه شيء إشارة إلى أنه قد قدر وقتها وعلمه والوجه الأول أقرب ، وقرأ حمزة والكسائي «علامِ » على المبالغة وبالخفض على البدل{[9598]} و { يعزب } معناه يغيب ويبعد ، وبه فسر مجاهد وقتادة ، وقرأ جمهور القراء «لا يعزُب » بضم الزاي ، وقرأ الكسائي وابن وثاب «لا يعزب » بكسرها وهما لغتان ، و { مثقال ذرة } معناه مقدار الذرة ، وهذا في الأجرام بين وفي المعاني بالمقايسة وقرأ الجمهور «ولا أصغرُ ولا أكبر » عطفاً على قوله { مثقال } وقرأ نافع والأعمش وقتادة «أصغرَ وأكبرَ » بالنصب عطفاً على { ذرة } ورويت عن أبي عمرو{[9599]} ، وفي قوله تعالى : { إلا في كتاب مبين } ضمير تقديره إلا هو في كتاب مبين ، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ .