الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ويستعجلك يا محمد الذين جحدوا قُدرة الله على إعادة خلقه بعد فنائهم بهيئتهم التي كانوا بها من قبل فنائهم من قومك بقيام الساعة، استهزاء بوعدك إياهم، وتكذيبا لخبرك، قل لهم: بلى تأتيكم وربي، قسما به لتأتينكم الساعة، ثم عاد جلّ جلاله بعد ذكره الساعة على نفسه، وتمجيدها، فقال:"عالِمِ الغَيْبِ":... علام ما يغيب عن أبصار الخلق، فلا يراه أحد، إما ما لم يكوّنه مما سيكوّنه، أو ما قد كوّنه فلم يُطلع عليه أحدا غيره. وإنما وصف جلّ ثناؤه في هذا الموضع نفسه بعلمه الغيب، إعلاما منه خلقه أن الساعة لا يعلم وقت مجيئها أحد سواه، وإن كانت جائية، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للذين كفروا بربهم: بلى وربكم لتأتينكم الساعة، ولكنه لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى علام الغيوب، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

يعني جلّ ثناؤه بقوله: "لا يَعْزُبُ عَنْهُ": لا يغيب عنه، ولكنه ظاهر له...

وقوله: "مِثْقالُ ذَرّةٍ "يعني: زنة ذرّة "في السموات ولا في الأرض "يقول تعالى ذكره: لا يغيب عنه شيء من زنة ذرّة فما فوقها فما دونها، أين كان في السموات ولا في الأرض، "وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ" يقول: ولا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرّة "وَلا أكْبَرُ" منه "إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ" يقول: هو مثبت في كتاب يبين للناظر فيه أن الله تعالى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلمه، فلم يعزب عن علمه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{لا يعزُب عنه مثقال ذرة} إلى آخر في الأفعال والأعمال، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه شيء من أفعالهم وأعمالهم ليكونوا أبدا على حذر؛ ألا ترى أنه ذكر على إثر ذلك الجزاء حيث قال: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وأخبر عن سابق عِلمه بهم، وأنه لا يخرج شيء من معلوماته عن علمه، فأثبت علمه بكل شيءٍ وشموله لكل شيء.. لأَنه لو لم يكن له علم لكان نقصاً، ولأنه لو خرَجَ مَعلومٌ واحدٌ عن علمهِ لكان بقدرته نقصٌ، والنقصُ -بأي وصفٍ كان- لا يجوز في صفته بحالٍ.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

قولهم: {لاَ تَأْتِينَا الساعة} نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة. أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية، كقولهم: {متى هذا الوعد} [يونس: 48]، [الأنبياء: 38]. أوجب ما بعد النفي ببلى على المعنى: أن ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجلّ.

ثم أمد التوكيد القسمي إمداداً بما أتبع المقسم به من الوصف بما وصف به، إلى قوله: {لِّيَجْزِي} لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوّة حال المقسم عليه وشدّة ثباته واستقامته، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة، كانت الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ.

فإن قلت: هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت: نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها في الخفية، وأوّلها مسارعة إلى القلب: إذا قيل: عالم الغيب، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة، وأنه كائن لا محالة، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئاً واضحاً.

فإن قلت: الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان وأقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذباً كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة البينة الساطعة وهي قوله: {لِّيَجْزِي} فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء، وأن المحسن لا بدّ له من ثواب، والمسيء لا بدّ له من عقاب. وقوله: {لِّيَجْزِي} متصل بقوله {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} تعليلاً له. قرىء: «لتأتينكم» بالتاء والياء. ووجه من قرأ بالياء: أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم. أو يسند [إلى] عالم الغيب، أي ليأتينكم أمره كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ} [الأنعام: 158] وقال: {أَوْ يَأْتِي أَمْرُ رَبّكَ} [النحل: 33].

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{وربي} مضافاً إلى الرسول، ليدل على شدّة القسم، إذ لم يأت به في الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة، وهو لفظ الله.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ثبتت حكمته بما نشاهد من محكم الأفعال وصائب الأقوال، فثبت بذلك علمه لأن الحكمة لا تكون إلا بالعلم، وكان الرب الرحيم العليم لا تكمل ربوبيته إلا بالملك الظاهر والإيالة القاهرة التي لا شوب فيها، ثبت البعث الذي هو محط الحكمة وموضع ظهور العدل، فكانت نتيجة ذلك: فالله يأتي بالساعة لما ثبت من برهانها كما ترون، فعطف عليه قوله: {وقال الذين كفروا} أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة: {لا تأتينا الساعة} والإخبار عنها باطل.

ولما تقدم من الأدلة ما لا يرتاب معه، أمره أن يجيبهم برد كلامهم مؤكداً بالقسم على أنه لم يخله من دليل ظاهر فقال: {قل بلى وربي} أي المحسن إليّ بما عمني به معكم من النعم، وبما خصني به من تنبئتي وإرسالي إليكم -إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو سبحانه، فهو أكرم من أن يدعكم من غير أن يحشركم لينتقم لي منكم، ويقر عيني بما يجازيكم به من أذاكم لي ولمن اتبعني، فإنه لا يكون سيد قط يرضى أن يبغي بعض عصاة عبيده على بعض، ويدعهم سدى من غير تأديب، فكيف إذا كان المبغي عليه مطيعاً له، والباغي عاصياً عليه، هذا ما لا يرضاه عاقل فكيف بحاكم فكيف بأحكم الحاكمين؟

{لتأتينكم} أي الساعة لتظهر فيها ظهوراً تاماً الحكمة بالعدل والفضل، وغير ذلك من عجائب الحكم والفصل.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبعد تقرير تلك الحقيقة في تلك الصورة الرائعة الواسعة المدى الفسيحة المجال يحكي إنكار الذين كفروا بمجيء الساعة؛ وهم القاصرون الذين لا يعلمون ماذا يأتيهم به الغد والله هو العليم بالغيب الذي لا يند عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض؛ والساعة لا بد منها ليلاقي المحسن والمسيء جزاء ما قدما في هذه الأرض:

(وقال الذين كفروا: لا تأتينا الساعة: قل: بلى وربي لتأتينكم، عالم الغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم. والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم)..

وإنكار الذين كفروا للآخرة ناشئ من عدم إدراكهم لحكمة الله وتقديره. فحكمة الله لا تترك الناس سدى، يحسن منهم من يحسن ويسيء منهم من يسيء؛ ثم لا يلقى المحسن جزاء إحسانه، ولا يلقى المسيء جزاء إساءته. وقد أخبر الله على لسان رسله: أنه يستبقي الجزاء كله أو بعضه للآخرة. فكل من يدرك حكمة الله في خلقه يدرك أن الآخرة ضرورية لتحقيق وعد الله وخبره.. ولكن الذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة.

ومن ثم يقولون قولتهم هذه: (لا تأتينا الساعة).. فيرد عليهم مؤكداً جازماً: (قل: بلى وربي لتأتينكم).. وصدق الله تعالى وصدق رسول الله -عليه صلوات الله- وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله، ويجزمون بما لا علم لهم به. والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو: عالم الغيب.. فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين.

ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة، تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر، لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور:

(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)..

ومرة أخرى نقول: إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية. وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء. فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة: (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.).. ولست أعرف في كلام البشر اتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل. فهو الله، سبحانه، الذي يصف نفسه، ويصف علمه، بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال.

وأقرب تفسير لقوله تعالى: (إلا في كتاب مبين) أنه علم الله الذي يقيد كل شيء، ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

ونقف أمام لفتة في قوله تعالى: مثقال ذرة... ولا أصغر من ذلك. والذرة كان معروفاً -إلى عهد قريب- أنها أصغر الأجسام. فالآن يعرف البشر -بعد تحطيم الذرة- أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء.

مجيء الساعة حتماً وجزماً، وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة:

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

و {الساعة}: عَلَم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر، وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلاً سفسطائياً على أنها ليست بواقعة، ولذلك سماها القرآن الواقِعة في قوله: {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة} [الواقعة: 1، 2]. وأشار بقوله: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هنا أيضاً يُحدِّثنا عن الساعة، ففي آخر الأحزاب

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ..} [الأحزاب: 63] وهنا ينكرونها {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ..} [سبأ: 3] أي: القيامة.

فلماذا ينكرونها؟ نعم ينكرونها؛ لأنهم أسرفوا على أنفسهم، وتمادوا في غيِّهم، ولن تكون القيامة في صالحهم؛ لذلك يهربون منها بالإنكار والتكذيب. حتى إخوان هؤلاء المكذبين مِمَّنْ يحبون أن يستدركوا على كلام الله يقولون: إذا كان الله قد قدَّر كل شيء على العبد، فقدَّر الطاعة، وقدَّر المعصية، فلماذا يعذبه على المعصية؟

والملاحظ، أنه لم يقُلْ أحد منهم في المقابل: ولماذا يثيبه على الطاعة؟ مما يدل على أن هذه الوقفة خاطئة وغير منطقية، وأنهم يخافون العقاب، وصاحب هذه المقولة ما قالها إلا لأنه واثق من كثرة سيئاته، ومن مصلحته أن يُكذِّب بالقيامة وينكرها، كالذي قال: {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36].

فكثرة سؤالهم عن الساعة وإنكارهم لها يدلُّ على خوفهم منها، بل هم مرعوبون من مجرد تصديقها؛ لأنهم يعلمون جيداً أنهم إن استتروا عن الناس فلن يستتروا من الله، وإنْ عَمُّوا على قضاء الأرض فلن يُعَمُّوا على قضاء السماء، ولن تنفعهم في القيامة حجة ولا لباقة منطق، ولا تزييف للحقائق.

لذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ أحدكم أن يكون ألحنَ بحُجَّته فأقضى له، فمَنْ قضيتُ له من حقِّ أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أُقْطِع له قطعةً من النار".

فالقاضي يحكم بالحجة وبالبيان، ويمكن للمتكلم أَن يُضلِّل القاضي، وأنْ يأخذ حقَّ الآخرين ظلماً، كما يفعل بعض المحامين الآن، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فأنت في محكمة قاضيها الحق سبحانه وتعالى.

إذن: هؤلاء ينكرون القيامة؛ لأنها اللغز الذي يحيِّرهم، والحقيقة التي تقضُّ مضاجعهم وتُرعبهم، الحقيقة التي تزلزل جاههم، وتقضي على سيادتهم، وإنْ أَمِنوا في الدنيا لما لهم من جاه وسيطرة، ففي القيامة سيأتون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ..} [الأنعام: 94]...

ثم يرد الحق سبحانه على إنكارهم للساعة، فيقول مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ..} يعني: قُلْ بِملء فيك (بلى) وبلى نفي للنفي السابق في قولهم {لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ..} وحين ننقض النفي، فإننا نثبت المقابلَ له، فمعنى (بلى) أي: أنها ستأتي.

ثم لا يكتفي الأسلوب بذلك، إنما يؤكد هذه القضية بالقَسَم {قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ..} فالحق سبحانه يُعلِّم رسوله أنْ يحلف بذاته سبحانه وهو مطمئن أنها ستأتيهم، والحق سبحانه لا يُلقِّن رسوله يميناً كاذباً، والحق سبحانه صادق دون حلف، فما بالك حين يحلف لك؟

وقوله تعالى بعدها {عَالِمِ الْغَيْبِ..} فيه إشارة إلى أننا لا نخبر بالساعة ولا نحلف على إتيانها من فراغ، إنما بما عندنا من علم الغيب، فهي لا بُدَّ آتية، ليس هذا فحسب، إنما سنُوافيكم فيها بإحصاء كامل للذنوب، كبيرها وصغيرها، ظاهرها وخَفيِّها، فعالِم الغيب لا يخفى عليه شيء مهما استتر، ومهما كنتَ بارعاً في إخفائه عن الناس.

{عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} لا يعزب: لا يغيب عن علمه.

والحق سبحانه في جمهرة الآيات يضرب المثل لِصِغَر الأشياء بالذرة، وهي الهباءة التي نراها في شعاع الشمس، ولا نراها في الظل لِصِغَر حجمها...

وتأمل الدقة الأدائية هنا، فقط ذكر الذرة، وهي أصغر شيء عرفه الإنسان، ثم ذكر الصغير عنها والأصغر بحيث مهما وصلنا في تفتيت الذرة نجد في كلام الله رصيداً لما سنصل إليه...

ولقائل أنْ يقول: إذا كان الحق سبحانه يمتنُّ علينا بمعرفة الذرة، وما دَقَّ من الأشياء، فما الميْزة في أنه سبحانه يعلم الأكبر منها؟

قالوا: هذه دقيقة من دقائق الأسلوب القرآني، فالشيء يخفى عليك، إما لأنه مُتناهٍ في الصِّغَر، بحيث لا تدركه بأدواتك، أو لأنه كبير بحيث لا يبلغه إدراكك، فهو أكبر من أنْ تحيط به لِكبره، إذن: فالحق سبحانه مُسلَّط على أصغر شيء، وعلى أكبر شيء لا يغيب عنه صغير لصِغَره، ولا كبير لِكِبَره.

والحق سبحانه لا يحيط علمه بما في كَوْنه فحسب، بل ويُسجِّله في كتاب مُعْجِز خالد، وفَرْق بين الأخبار بالعلم قوْلاً وبين تسجيله، فإذا لم يكُنْ العلم مُسجَّلاً فَلَك أن تقول ما تشاء، لكن حين يسجل يصير حجة عليك.

لذلك نرى الحق سبحانه حين يعطينا قضية في الكون يحفظها مع القرآن، وأنت لا تحفظ إلا ما في صالحك، وما دام الحق سبحانه يحفظها فهذا يعنى أنها واقعة لا محالة، وإلا ما سجَّلها الحق سبحانه وحفظها، فهو سبحانه يعلم تمام العلم أنه لا يكون في مُلْكه إلا ما علم، إذن: كتب لأنه علم، وليس عَلِم لأنه كُتِب. ومَن الذي أمر بكتابته؟ علمه سبحانه إذن: فالعلم أسبق.

لكن، لماذا عندما سألوا عن الساعة أو أنكروها ذكَّرهم الله بعلمه لكل صغيرة وكبيرة، فقال: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.

قالوا: ذكر لهم الحق سبحانه إحاطة علْمه بكل شيء؛ ليلهيهم عن التفكير في أمر الساعة، ويشغلهم بذنوبهم، وأنها محسوبة عليهم لا يخفى على الله منها شيء، وعندها سيقولون: ليتنا ما سألنا، كما قال تعالى:

{يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ..} [المائدة: 101].

إذن: سألوا عن الساعة، فأخذهم إلى ساحة أخرى تزعجهم وتزلزلهم كلما علموا أنَّ عِلْم الله تعالى يحيط بكل شيء في السماوات وفي الأرض...

{لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ...}.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الاعتقادات؛ الحساب والكتاب والعدل والجزاء، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.

والتركيز على كلمة «ربّ» لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية؛ فكيف يمكن أن يكون الله مالكاً ومربياً للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي، ثمّ يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كلّ شيء، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباءً وبلا معنى.