تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

الآية 3 وقوله تعالى : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينّكم } قال بعضهم : إنهم أقسموا باللاّت والعزّى أن لا بعث ولا حياة بعد الموت ، فأمر الله نبيه أن يقسم بالله الواحد على{[16888]} بعث وقيامة بقوله : { قل بلى وربي لتأتينكم } .

وجائز أن يكون على غير هذا ، وهو ما قال في آية أخرى حيث قال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا } [ النحل : 38 ] . أقسموا بالله أنه لا يبعث من يموت ، فأمر رسوله في هذه الآية أن يقسم بالله الذي أقسموا هم [ به ]{[16889]} أنه يبعث ، وهو قوله : بلى وربي لتأتينكم } .

وكان قسمه بما أقسم عندهم أصدق من قسمهم لأنهم لم يأخذوا عليه كذبا قط ، ولا اتهموه في شيء .

يدل على ذلك ما أخبر الله عنهم حين قال : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام : 33 ] أخبر أنهم لا يكذبونك في مقالتك ، ولكن همّهم جحود الآيات والإنكار لها ، فيكون قسمه مقابل قسم أولئك في إنكارهم البعث ليعلموا كذب أنفسهم في قسمهم بقسم رسول الله بما ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { عالم الغيب } بالخفض . قد قُرئ عالم{[16890]} الغيب بالرفع ، وعلاّم{[16891]} الغيب . فمن خفضه جعله صفة ونعتا لما تقدم من قوله : { قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب } ومن رفعه جعله{[16892]} على الابتداء ، وجعل{[16893]} الكلام [ قبله ]{[16894]} تاما بقوله : { وربي لتأتينكم } ثم استأنف ، فقال : عالم { الغيب لا يعزُب عنه مثقال ذرة } .

وقد قُرئ برفع الزاي وبخفضها{[16895]} : لا يعزِب ، وكلاهما لغتان . والعزب في كلام العرب الغائب .

وقال بعضهم : { لا يعزُب } أي لا يبعد ، وهما واحد .

وقوله تعالى : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } كقوله{[16896]} في الأولى : { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور } .

جائز أن تكون هذه الآية في جواهر الأشياء وأجناسها المختلفة لأنه أخبر من علمه بما يلج في الأرض وما يخرج منها وما يصعد فيها وما ينزل ، وذلك علم جواهر الأشياء .

وقوله تعالى : { لا يعزُب عنه مثقال ذرة } إلى آخر في الأفعال والأعمال ، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء ، ولا يغيب عنه شيء من أفعالهم وأعمالهم ليكونوا أبدا على حذر .

ألا ترى أنه ذكر على إثر ذلك الجزاء حيث قال : { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ؟

[ ويحتمل ]{[16897]} أن يكونا واحدا إلا أنه في الآية الأولى الداخل في الأرض والخارج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ولم يذكر في ذلك الساكن فيها والمقيم وما يكون فيهما ، فذكر ذلك في قوله : { لا يعزُب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } يخبر عن إحاطة علمه بالأشياء كلها من الساكنة والمقيمة والمتحركة والمتقلّبة فيهما ، والله أعلم .


[16888]:من م، في الأصل: بلى.
[16889]:ساقطة من الأصل وم.
[16890]:انظر معجم القراءات القرآنية ح 5/141.
[16891]:انظر المرجع السابق ج 5/142.
[16892]:في الأصل وم: يجعله.
[16893]:في الأصل وم: ويجعل.
[16894]:ساقطة من الأصل وم.
[16895]:انظر معجم القراءات القرآنية ج 5/142.
[16896]:في الأصل وم: وقال.
[16897]:في الأصل وم: أو.