فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } هذا متصل بقوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ، وإنما قال ضرب مثل لأن حجج الله عليهم بضرب الأمثال لهم أقرب إلى أفهامهم ، قال ابن عباس : نزلت في صنم ، قال الأخفش : ليس ثمّ مثل وإنما المعنى لي مثلا ، قال النحاس : المعنى ضرب الله عز وجل لما يعبدونه من دونه مثلا ، قال : وهذا من أحسن ما قيل فيه أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم ، وقال القتيبي : معنى ضرب مثل أي عبدت آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا ، وأصل المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول مسيرة في الناس مستغربة عندهم وجعلوا مضربها مثلا لموردها ، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية .

{ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي لضرب هذا المثل وتدبروه حق تدبره ، فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع ، والمعنى أن الكفار جعلوا لله مثلا لعبادتهم غيره فكأنه قال : جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه ، ثم بين حالها وصفتها فقال :

{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } المراد بهم الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها ، وقيل المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله ، لكونهم أهل الحل والعقد فيهم ، وقيل الشيطانين الذين حملوهم على معصية الله ، والأول أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل .

{ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا } واحدا مع ضعفه وصغره وقلته وهو اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى وجمع القلة إذبة والكثرة ذبان بالكسر مثل غراب وأغربة وغربان وبالضم كقضبان .

وقال الجوهري : الذباب معروف ، الواحد ذبابة ، وسمي ذبابا لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره و { لن } لتأكيد النفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل ، كأنه قال : محال أن يخلقوا .

وتخصيص الذباب لمهانته واستقذاره ، والمعنى لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات وهو أجهل الحيوانات ، لأنه يرمي نفسه في المهلكات ، ومدة عيشه أربعون يوما ، وأصل خلقته من العفونات ثم يتوالد بعضه من بعض يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود ، وعلى الأسود فيرى أبيض .

{ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي لخلق ، الذباب ، والتقدير لن يخلقوه على كل حال ، ولو في هذه الحالة المقتضية لجمعهم ، فكأنه تعالى قال : إن هذه الأصنام إن اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا كما أشار إليه في التقرير ، ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال :

{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } أي إذا أخذ واختطف منهم هذا الخلق الأقل الأرذل شيئا من الأشياء بسرعة لا يقدرون على تخليصه منه ، لكمال عزهم وفرط ضعفهم ، والاستنقاذ والإنقاذ التخليص ، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف ، وعن استنقاذ ما أخذه منهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرما وأشد منه قوة وأعجز وأضعف ، قال عكرمة : أي لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء ، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب فقال :

{ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه ، والمطلوب الذباب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ولو حققت وجدت الطالب أضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب ، وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم قال ابن عباس : الطالب ’آلهتهم والمطلوب الذباب ،