اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

قوله تعالى : { يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ } الآية لما بين أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به ولا علم ذكر{[31904]} هاهنا ما يدل على إبطال قولهم {[31905]} .

قوله : «ضُرِبَ مَثَلٌ » قال الأخفش : ليس هذا{[31906]} مثل وإنما المعنى جعل الكفارُ لله مثلاً{[31907]} . قال الزمخشري{[31908]} : فإن قلت : الذي جاء به ليس مثلاً ، فكيف سماه مثلاً ؟ قلت قد سميت الصفة والقصة الرائعة المتلقاة بالامتحان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستغربة مستحسنة{[31909]} . وقيل : معنى «ضَرَبَ » جعل ، كقولهم : ضَرَبَ السلطان البَعْثَ ، وضرب الجِزْيَة على أهل الذمة . ومعنى الآية : فجعل لي شَبَهٌ وشُبِّه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها . وقيل : هو مثل من حيث المعنى ، لأنه ضرب مثل من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق{[31910]} ذباباً{[31911]} . «فَاسْتَمِعُوا لَه » أي : فتدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع ، وإنما ينفع بالتدبر{[31912]} {[31913]} .

قوله : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ } قرأ العامة «تَدْعُونَ » بتاء الخطاب والحسن ويعقوب وهارون ومحبوب{[31914]} عن أبي عمرو بالياء من تحت{[31915]} وهو في كلتيهما مبني للفاعل {[31916]} .

وموسى الأسواري{[31917]} واليماني «يُدْعَوْنَ » بالياء من أسفل مبنياً للمفعول{[31918]} . والمراد الأصنام . فإن قيل : قول «ضُرِبَ » يفيد فيما مضى ، والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء فالجواب : إذا كان ما يورد من الوصف معلوماً من قبل جاز ذلك فيه ، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر تقدم {[31919]} .

قوله : «لَنْ يَخْلُقُوا » . جعل الزمخشري نفي «لَنْ » للتأبيد{[31920]} وتقدم البحث معه في ذلك{[31921]} . والذباب معروف ، وهو واحد ، وجمعه القليل : أذِبَّه ، وفيه الكسرة ، ويجمع على ذِبَّان وذُبَّان{[31922]} بكسر الذال وضمها وعلى{[31923]} ذُبّ{[31924]} . والمِذَبَّة ما يطرد بها الذباب{[31925]} . وهو اسم جنس واحدته ذبابة تقع للمذكر والمؤنث فتفرد بالوصف .

قوله : { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال يستحيل خلقهم الذباب حال اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه فكيف حال انفرادهم{[31926]} . وقد تقدم أن هذه الواو عاطفة هذه{[31927]} الجملة الحالية على حال محذوفة ، أي : انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحالة المقتضية{[31928]} لخلقهم ، فكأنه تعالى قال : إن هذه الأصنام لو اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً {[31929]} .

قوله : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً } السلب اختطاف الشيء بسرعة ، يقال : سلبه نعمته .

والسلب : ما على القتيل ، وفي الحديث : «مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبه »{[31930]} .

وقوله : { لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } الاستنقاذ : استفعال بمعنى الإفعال ، يقال : أنقذه من كربته ، أي : أنجاه منه وخلصه ، ومثله : أَبَلَّ المريض واسْتَبَلّ{[31931]} .

فصل{[31932]}

كأنه تعالى قال : أترُكُ أمر الخلق والإيجاد وأتكلمُ{[31933]} فيما هو أسهل منه ، فإن الذباب إذا سَلَبَ منها شيئاً فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب . واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة ، وأما الثانية فلا .

فإن{[31934]} قيل : هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة ، وإما لنفي{[31935]} كونها مستحقة للتعظيم ، والأول{[31936]} فاسد ، لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة ، فلا فائدة في إقامة الدلالة عليه . وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده ، لأنه لا يلزم من نفي كونها حيّة أن لا{[31937]} تكون معظمة ، فإن جهات التعظيم مختلفة ، فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات{[31938]} موضوعة على صور الكواكب ، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء{[31939]} المتقدمين .

فالجواب : أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الضر والنفع ، فهو يبطل بهذه الدلالة ، فإنها لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى . وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين ، فقد تقرر في العقل أنَّ تعظيمَ{[31940]} غير الله ينبغي أن يكون أقل من تعظيم{[31941]} الله ، والقوم كانوا يعظمونها نهاية التعظيم ، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم ، فمن هاهنا استوجبوا الذم{[31942]} .

فصل

قال ابن عباس{[31943]} : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران{[31944]} ، فإذا جفَّ جاءت الذباب فاستلبته وقال السدي : كانوا يضعون{[31945]} الطعام بين يدي الأصنام فيقع الذباب عليه فيأكلن منه{[31946]} .

وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بأنواع الطيب ، فربما يسقط منها واحدة فأخذها طائر وذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها{[31947]} { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } قيل : هو إخبار . وقيل : تعجب . والأول أظهر{[31948]} .

قال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم ، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب{[31949]} . وقيل : العكس الطالب الصنم والمطلوب الذباب ، فالصنم كالطالب لأنه لو طلب أن يخلقه{[31950]} ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه ، والذباب بمنزلة المطلوب{[31951]} . وقال الضحاك : الطالب العابد والمطلوب المعبود ، لأن كون الصنم طالباً ليس حقيقة بل على سبيل التقدير{[31952]} . وقيل : المعنى ضعف أي ظهر قبح هذا المذهب كما يقال عند المناظرة : ما أضعف هذا المذهب ، وما أضعف هذا الوجه{[31953]} .


[31904]:في ب: وذكر.
[31905]:الفخر الرازي 23/68.
[31906]:في ب: هنا. وهو تحريف.
[31907]:النص بلفظه من البحر المحيط 6/390، وهو ملخص ما قاله الأخفش في معاني القرآن 2/637.
[31908]:في ب: وقال.
[31909]:الكشاف 3/40.
[31910]:في الأصل: يلحق. وهو تحريف.
[31911]:انظر البحر المحيط 6/390.
[31912]:انظر البحر المحيط 6/390.
[31913]:انظر الفخر الرازي 23/69.
[31914]:هو محمد بن الحسن بن هلال بن محبوب، أبو بكر محبوب وهو لقبه، البصري. روى القراءة عن شبل بن عباد، ومسلم بن خالد، وأبي عمرو بن العلاء، روى القراءة عنه محمد بن يحيى القطعي، وخلف بن هشام، وغيرهما. طبقات القراء 2/123.
[31915]:البحر المحيط 6/390، والإتحاف 317.
[31916]:البحر المحيط 6/390. والضمير للكفار.
[31917]:لم أجد ترجمة فيما رجعت إليه من مراجع.
[31918]:المختصر (96) البحر المحيط 6/317. والضمير للأصنام.
[31919]:انظر الفخر الرازي 23/69.
[31920]:اتفق النحويون على أن (لن) تفيد النفي والاستقبال، بمعنى أنها تنفي الفعل المضارع وتخلصه للاستقبال، فينفي بها ما أثبت مع حرف التنفيس، فيقال (لن يقوم) في نفي: (سيقوم) أو (سوف يقوم)، قال سيبويه: و(لن) وهي نفي لقوله سيفعل، الكتاب 4/220، وقال المبرد: (ومن هذه الحروف (لن) وهي نفي قولك: سيفعل) المقتضب 2/6 وهنا ابن عادل تابع غيره في أن (لن) تفيد التأبيد فقد نسب ابن مالك للزمخشري في الأنموذج بأنها تفيد التأبيد (شرح الكافية الشافية 4/1531) وكذلك ابن هشام في المغني 1/284 وقد رد ذلك أستاذنا الدكتور عبد الله الحسيني هلال في كتابه الفعل المضارع في ضوء أساليب القرآن (129) فإنه قال: (وقد قرأت كتاب (الأنموذج) المطبوع ولم أجد فيه شيئا عن (لن) غير قول الزمخشري: و(لن) نظيرة "لا" في نفي المستقبل ولكن على التأكيد. وهذا نص على إفادة (لن) التأكيد، ولا إشارة فيه إلى إفادتها التأبيد، وبذلك تكون أقوالهم غير مطابقة لما قاله الزمخشري).
[31921]:عند قوله تعالى: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143]، انظر اللباب 4/95.
[31922]:في ب: ذباب وذباب. وهو تحريف.
[31923]:في الأصل: على.
[31924]:حكى سيبويه عن العرب (ذب) في جمع ذباب فهو مع هذا الإدغام على اللغة التميمية. انظر اللسان (ذبب).
[31925]:المذبة: هنة تسوى من هلب الفرس، يذب بها الذباب. اللسان (ذبب).
[31926]:الكشاف 3/40. بتصرف.
[31927]:في الأصل: وهذه.
[31928]:في ب: المقضية.
[31929]:انظر البحر المحيط 6/390.
[31930]:أخرجه مسلم (حج) 3/1371، أحمد 5/12، 295، 306.
[31931]:أي: برأ وصح.
[31932]:هذا لفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/69.
[31933]:في النسختين: وتكلم. وما أثبته من الفخر الرازي.
[31934]:في الأصل: ن. وهو تحريف.
[31935]:في ب: وأما النفي. وهو تحريف.
[31936]:في ب: فالأول.
[31937]:في ب: إلا أن. وهو تحريف.
[31938]:الطلسم (في علم السحرة): خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية لجلب محبوب أو دفع أذى، وهو لفظ يوناني لكل ما هو غامض كالألغاز والأحاجي، والشائع على الألسنة طلسم كجعفر، ويقال فك طلسما وطلاسمة وطخمه وفسره. المعجم الوسيط (طلسم).
[31939]:والأنبياء: سقط من ب.
[31940]:في ب: تعظم.
[31941]:في النسختين: وتكلم. وما أثبته من الفخر الرازي.
[31942]:في الأصل: الذنب. وهو تحريف.
[31943]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/613.
[31944]:في ب: للزعفران. وهو تحريف.
[31945]:في الأصل: يصنعون. وفي ب: يصفون. والصواب ما أثبته.
[31946]:منه: سقط من ب.
[31947]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/613.
[31948]:انظر البحر المحيط 6/390.
[31949]:انظر البغوي 5/613.
[31950]:في النسختين: يلحقه. وهو تحريف.
[31951]:انظر الفخر الرازي 23/69 – 70.
[31952]:انظر البغوي 5/613 والفخر الرازي 23/70.
[31953]:انظر الفخر الرازي 23/70.