البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

{ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير } .

الذباب : الحيوان المعروف يجمع على ذباب بكسر الذال وضمها ، وعلى ذبّ والمَذبَّة ما يطرد به الذباب ، وذباب السيف طرفه والعين إنسانها ، وأسنان الإبل .

سلبت الشيء : اختطفته بسرعة .

استنقذ : استفعل بمعنى أفعل أي أنقذ نحو أبل واستبل .

لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركون عبادة من خلقهم ، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقل منه ، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله { إن الذين تدعون } بتاء الخطاب .

وقيل : خطاب للمؤمنين أراد الله أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون { تدعون } خطاباً لغيرهم الكفار عابدي غير الله .

وقيل : الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير الله ، فإنه يظهر له قبح ذلك .

و { ضُرب } مبني للمفعول ، والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى ، ضرب مثلاً لما يعبد من دونه أي بين شبهاً لكم ولمعبودكم .

وقيل : ضارب المثل هم الكفار ، جعلوا مثلاً لله تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال : ليس ههنا { مثل } وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلاً .

وقيل : هو { مثل } من حيث المعنى لأنه { ضرب مثل } من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً .

وقال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً ؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى .

وقرأ الجمهور { تدعون } بالتاء .

وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل .

وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنياً للمفعول .

وقال الزمخشري { لن } أخت لا في نفي المستقبل إلاّ أن تنفيه نفياً مؤكداً ، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال : محال أن يخلقوا انتهى .

وهذا القول الذي قاله في { لن } هو المنقول عنه أن { لن } للنفي على التأييد ، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل { لن } مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله { أفمن يخلق كمن لا يخلق } كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح ، والاستدلال عليه مذكور في النحو .

وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث إنّ الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد ، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب { الذباب } وعدم استنقاذ شيء مما { يسلبهم } وكان الذباب كثيراً عند العرب ، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك .

وعن ابن عباس : كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله .

وموضع { ولو اجتمعوا له } قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال مستحيل : أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه ، وتعاونهم عليه انتهى .

وتقدم لنا الكلام على نظير { ولو } هذه ، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة ، كأنه قيل { لن يخلقوا ذباباً } على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم ، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك .

{ ضعف الطالب والمطلوب } قال ابن عباس : الصنم والذباب ، أي ينبغي أن يكون الصنم طالباً لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان .

وقيل { المطلوب } الآلهة و { الطالب } الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم ، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة .

وقال الضحاك : العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته ، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده .

وقال الزمخشري : وقوله { ضعف الطالب والمطلوب } كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لأن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب ، وذاك مغلوب والظاهر أنه إخبار بضعف الطالب والمطلوب .

وقيل : معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب .