ف{ قال الذي عنده علم من الكتاب } ، واختلفوا فيه فقال بعضهم : هو جبريل : وقيل : هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام . وقال أكثر المفسرين : هو أصف بن برخيا ، وكان صديقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى . وروى جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن آصف قال لسليمان حين صلى : مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد سليمان عينيه ، فنظر نحو اليمين ، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خداً حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان . وقال الكلبي : خر آصف ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغاب عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان . وقيل : كانت المسافة مقدار شهرين . واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف ، فقال مجاهد ، ومقاتل : يا ذا الجلال والإكرام . وقال الكلبي : يا حي يا قيوم . وروي ذلك عن عائشة . وروي عن الزهري قال : دعاء الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها . وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان ، قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علماً وفهماً : { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } قال سليمان : هات ، قال : أنت النبي ابن النبي ، وليس أحد أوجه عند الله منك ، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك ، فقال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت . وقوله تعالى : { قبل أن يرتد إليك طرفك } قال سعيد بن جبير : يعني : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك . قال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر . وقال مجاهد : يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئاً . وقال وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه ، حتى أمثله بين يديك ، { فلما رآه } يعني : رأى سليمان العرش ، { مستقراً عنده } محمولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ، { قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر } نعمه { أم أكفر } فلا أشكرها ، { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } أي : يعود نفع شكره إليه ، وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها ، لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ، { ومن كفر فإن ربي غني } عن شكره ، { كريم } بالأفضال على من يكفر نعمه .
فإذا ( الذي عنده علم من الكتاب )يعرض أن يأتي به في غمضة عين قبل أن يرتد إليه طرفه ، ولا يذكر اسمه ، ولا الكتاب الذي عنده علم منه . إنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله ، موهوب سرا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد . وهو أمر يشاهد أحيانا على أيدي بعض المتصلين ، ولم يكشف سره ولا تعليله ، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية . وهذا أقصى ما يقال في الدائرة المأمونة التي لا تخرج إلى عالم الأساطير والخرافات !
ولقد جرى بعض المفسرين وراء قوله : ( عنده علم من الكتاب )فقال بعضهم : إنه التوراة . وقال بعضهم : إنه كان يعرف اسم الله الأعظم . وقال بعضهم غير هذا وذاك . وليس فيما قيل تفسير ولا تعليل مستيقن . والأمر أيسر من هذا كله حين ننظر إليه بمنظار الواقع ، فكم في هذا الكون من أسرار لا نعلمها ، وكم فيه من قوى لا نستخدمها . وكم في النفس البشرية من أسرار كذلك وقوى لا نهتدي إليها . فحيثما أراد الله هدى من يريد إلى أحد هذه الأسرار وإلى واحدة من هذه القوى فجاءت الخارقة التي لا تقع في مألوف الحياة ، وجرت بإذن الله وتدبيره وتسخيره ، حيث لا يملك من لم يرد الله أن يجريها على يديه أن يجريها .
وهذا الذي عنده علم من الكتاب ، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم ، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده ، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي ، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار .
وقد ذكر بعض المفسرين أنه هو سليمان نفسه - عليه السلام - ونحن نرجح أنه غيره . فلو كان هو لأظهره السياق باسمه ولما أخفاه . والقصة عنه ، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر . وبعضهم قال : إن اسمه آصف ابن برخيا ولا دليل عليه .
( فلما رآه مستقرا عنده قال : هذا من فضل ربي ، ليبلوني أأشكر أم أكفر ? ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم ) .
لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب سليمان - عليه السلام - وراعه أن يحقق الله له مطالبه على هذا النحو المعجز ؛ واستشعر أن النعمة - على هذا النحو - ابتلاء ضخم مخيف ؛ يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه ، ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه ؛ ويحتاج إلى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم ، ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه . والله غني عن شكر الشاكرين ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، فينال من الله زيادة النعمة ، وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء . ومن كفر فإن الله( غني )عن الشكر( كريم )يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء .
{ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } قال ابن عباس : وهو آصف كاتب سليمان . وكذا رَوَى محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان : أنه آصف بن برخياء ، وكان صدّيقا يعلم الاسم الأعظم .
وقال قتادة : كان مؤمنا من الإنس ، واسمه آصف . وكذا قال أبو صالح ، والضحاك ، وقتادة : إنه كان من الإنس - زاد قتادة : من بني إسرائيل .
وقال قتادة - في رواية عنه - : كان اسمه بليخا .
وقال زهير بن محمد : هو رجل من الأندلس{[22048]} يقال له : ذو النور .
وزعم عبد الله بن لَهِيعة : أنه الخضر . وهو غريب جدًا .
وقوله : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } أي : ارفع بصرك وانظر مُدّ بصرك مما تقدر عليه ، فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك .
وقال وهب بن منبه : امدد بصرك ، فلا يبلغ مداه حتى آتيك به .
فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ، ثم قام فتوضأ ، ودعا الله عز وجل .
قال مجاهد : قال : يا ذا الجلال والإكرام . وقال الزهري : قال : يا إلهنا وإله كل شيء ، إلهًا واحدًا ، لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها . قال : فتمثل له بين يديه .
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن إسحاق ، وزهير بن محمد ، وغيرهم : لما دعا الله ، عز وجل ، وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس - وكان في اليمن ، وسليمان عليه السلام ببيت المقدس - غاب السرير ، وغاص في الأرض ، ثم نبع من بين يدي سليمان ، عليه السلام .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه . قال : وكان هذا الذي جاء به من عُبَّاد البحر ، فلما عاين سليمان ومَلَؤه ذلك ، ورآه مستقرًا عنده { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي } أي : هذا من نعم الله علي { لِيَبْلُوَنِي } أي : ليختبرني ، { أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } ، كقوله { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] ، وكقوله { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] .
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } أي : هو غني عن العباد وعبادتهم ، { كَرِيمٌ } أي : كريم في نفسه ، وإن لم يعبده أحد ، فإن عظمته ليست مفتقرة{[22049]} إلى أحد ، وهذا كما قال موسى : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] .
وفي صحيح مسلم : " يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا . يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم [ ثم أوفيكم إياها ]{[22050]} فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " {[22051]} .
قوله : قَالَ الّذِي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ يقول جلّ ثناؤه : قال الذي عنده علم من كتاب الله ، وكان رجلاً فيما ذكر من بني آدم ، فقال بعضهم : اسمه بليخا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عثمة ، قال : حدثنا شعبة ، عن بشر ، عن قَتادة ، في قوله قالَ الّذي عنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : كان اسمه بليخا .
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ رجل من الإنس .
حدثنا ابن عرفة ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاريّ ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قول الله : قالَ الّذِي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قال : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش تحت الأرض حتى خرج إليهم .
حدثنا ابن عرفة ، قال : ثني حماد بن محمد ، عن عثمان بن مطر ، عن الزهريّ ، قال : دعا الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كلّ شيء إلها واحدا ، لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها ، قال : فمثل بين يديه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة قالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : رجل من بني آدم أحسبه قال : من بني إسرائيل ، كان يعلم اسم الله الذي إذا دعي به أجاب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : الاسم الذي إذا دعي به أجاب ، وهو : يا ذا الجلال والإكرام .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : قال سليمان لمن حوله : أيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلِ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فقال عفريت أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قال سليمان : أريد أعجل من ذلك ، فقال رجل من الإنس عنده علم من الكتاب ، يعني اسم الله إذا دعي به أجاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ، وإنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ لا آتيك بغيره ، أقول غيره أمثله لك . قال : وخرج يومئذٍ رجل عابد في جزيرة من البحر ، فلما سمع العفريت قالَ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : ثم دعا باسم من أسماء الله ، فإذا هو يحمل بين عينيه ، وقرأ : فَلَمّا رآهُ مُسْتَقرّا عنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي . . . حتى بلغ إنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال رجل من الإنس . قال : وقال مجاهد : الذي عنده علم من الكتاب : علم اسم الله .
وقال آخرون : الذي عنده علم من الكتاب ، كان آصف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قَالَ عِفْرِيتٌ لسليمان أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ، وإنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ فزعموا أن سليمان بن داود قال : أبتغي أعجل من هذا ، فقال آصف بن برخيا ، وكان صدّيقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : أنا يا نبيّ الله آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ .
وقوله : أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أنا آتيك به قبل أن يصل إليك من كان منك على مدّ البصر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني إبراهيم ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جُبَير قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، فذلك قوله قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال : قال غير قَتادة قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : من قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ تمدّ عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أمثله بين يديك . قال : ذلك أريد .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثام ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : أخبرت أنه قال : ارفع طرفك من حيث يجيء ، فلم يرجع إليه طرفه حتى وضع العرش بين يديه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء ، عن مجاهد ، في قوله قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : مدّ بصره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : إذا مدّ البصر حتى يردّ الطرف خاسئا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : إذا مدّ البصر حتى يحسر الطرف .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : قبل أن يرجع إليك طرفك من أقصى أثره ، وذلك أن معنى قوله يَرَتَدّ إلَيْكَ يرجع إليك البصر ، إذا فتحت العين غير راجع ، بل إنما يمتدّ ماضيا إلى أن يتناهى ما امتدّ نوره . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله إنما أخبرنا عن قائل ذلك أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ لم يكن لنا أن نقول : أنا آتيك به قبل أن يرتدّ راجعا إلَيْكَ طَرْفُكَ من عند منتهاه .
وقوله : فَلَمّا رآه مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ يقول : فلما رأى سليمان عرش ملكة سبأ مستقرّا عنده . وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ظهر عما ترك ، وهو : فدعا الله ، فأتى به فلما رآه سليمان مستقرّا عنده .
وذُكر أن العالم دعا الله ، فغار العرش في المكان الذي كان به ، ثم نبع من تحت الأرض بين يدي سليمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سليمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : ذكروا أن آصِف بن برخيا توضأ ، ثم ركع ركعتين ، ثم قال : يا نبيّ الله ، امدد عينك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ سليمان عينه ينظر إليه نحو اليمن ، ودعا آصف فانخرق بالعرش مكانه الذي هو فيه ، ثم نبع بين يدي سليمان فَلَمّا رَآهُ سليمان مُسْتَقِرّا عِنْدَهَ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : نبع عرشها من تحت الأرض .
وقوله : قالَ هَذَا مِنْ فَضِلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي يقول : هذا البصر والتمكن والملك والسلطان الذي أنا فيه حتى حمل إليّ عرش هذه في قدر ارتداد الطرف من مأرب إلى الشام ، من فضل ربي الذي أفْضَلَه عليّ وعطائه الذي جاد به عليّ ، ليبلوني ، يقول : ليختبرني ويمتحنني ، أأشكر ذلك من فعله عليّ ، أم أكفر نعمته عليّ بترك الشكر له ؟
وقد قيل : إن معناه : أأشكر على عرش هذه المرأة إذ أُتيت به ، أم أكفر إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : فَلَمّا رآهُ مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ على السرير إذ أُتيت به أمْ أكْفُرُ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني ؟ .
وقوله : وَمَنْ شَكَرَ فإنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ يقول : ومن شكر نعمة الله عليه ، وفضله عليه ، فإنما يشكر طلب نفع نفسه ، لأنه ليس بنفع بذلك غير نفسه ، لأنه لا حاجة لله إلى أحد من خلقه ، وإنما دعاهم إلى شكره تعريضا منه لهم للنفع ، لا لاجتلاب منه بشكرهم إياه نفعا إلى نفسه ، ولا دفع ضرّ عنها . وَمَنْ كَفَرَ فإنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ يقول : ومن كفر نعمه وإحسانه إليه ، وفضله عليه ، لنفسه ظلم ، وحظّها بخَس ، والله غنّي عن شكره ، لا حاجة به إليه ، لا يضرّه كفر من كفر به من خلقه ، كريمٌ ، ومِن كرمه إفضاله على من يكفر نعمه ، ويجعلها وصلة يتوصل بها إلى معاصيه .