اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ} (40)

ف { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب } ، فقيل : هو جبريل - عليه السلام - وقيل : ملك من الملائكة أيَّد الله به نبيه سليمان - عليه السلام{[38989]} - وقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخياء ، وكان وزير سليمان{[38990]} ، وكان صدّيقاً يعلم اسم الله الأعظم ، إذا دعا به أجيب ، وقيل : بل هو سليمان نفسه{[38991]} ، والمخاطب هو العفريت الذي كلمه ، وأراد سليمان - عليه السلام{[38992]} - إظهار معجزة ، فتحداهم أولاً ، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت{[38993]} .

( قال محمد بن المنكدر{[38994]} : إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علماً وفهماً : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } ، قال سليمان : هاتِ ، قال : أنت النبي ابن النبي ، وليس أحد أوجه عند الله منك ، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك ، قال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت{[38995]} . وضعف السهيلي ذلك بأنه لا يصح من سياق الكلام ){[38996]} {[38997]} ، قال ابن الخطيب : وهذا القول أقرب لوجوه :

الأول : أن لفظة «الذي » موضوعة في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفها بقضية{[38998]} معلومة ، والشخص المعروف بأنه عنده علم من الكتاب هو سليمان - عليه السلام - فوجب انصرافه إليه أقصى ما في الباب أن{[38999]} يقال : كان آصف كذلك أيضاً ، لكنا نقول : إن سليمان كان أعرف بالكتاب منه ، لأنه هو النبي ، فكان{[39000]} صرف اللفظ إلى سليمان أولى .

الثاني : أن إحضار العرش في تلك{[39001]} الساعة اللطيفة درجة عالية ، فلو حصلت لآصف دون سليمان ، لاقتضى ذلك قصور حال سلميان في أعين الخلق .

الثالث : أن سليمان قال { هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } فظاهره{[39002]} يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى{[39003]} بدعاء سليمان{[39004]} .

فصل :

واختلفوا في الكتاب ، فقيل : هو اللوح المحفوظ ، والذي عنده علم الكتاب جبريل - عليه السلام - وقيل : كتاب سليمان ، أو كتاب بعض الأنبياء ، وفي الجملة فإنّ ذلك مدح ، وإن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش ، ولذلك{[39005]} قيل : إنَّه اسم الله الأعظم ، وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات{[39006]} .

قوله : { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } فيه وجهان :

أحدهما : أنه الجفن عُبِّر{[39007]} به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك : افعل ذلك في لحظة ، وهذا قول مجاهد{[39008]} ، وقال الزمخشري : وهو تحريكك أجفانك إذا نظرت ، فوضع موضع النظر{[39009]} .

الثاني : أنه بمعنى المطروف{[39010]} ، أي : الشيء الذي تَنْظُره{[39011]} ، والأول هو الظاهر ، لأن الطرف قد وصف بالإرسال في قوله :

3963 - وَكُنْتَ إَذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً *** لِقَلْبكَ يوماً أَتْعَبَتْكَ المَناظِرُ

رَأيتَ الَّذِي لا كلّه أَنْتَ قَادِر *** عَليْه ولاَ عن بعضهِ أَنْتَ صَابِرُ{[39012]}

قال{[39013]} سعيد بن جبير «من قبل أن يرتد » أي : من قبل أن يرجع إليك أقصى ( من ترى ، وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك{[39014]} .

وقال مجاهد : يعني إدامة النظر ){[39015]} حتى يرتد{[39016]} الطرف خاسئاً{[39017]} . وقال وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه ، حتى أمثله بين يديك{[39018]} . فإن قيل : هذا يقتضي ( إما القول بالطفرة ){[39019]} {[39020]} أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين .

والجواب{[39021]} : أن المهندسين قالوا : كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ثم إن زمان طلوعها{[39022]} زمان قصير ، فإن زمان طلوع تمام القرص على زمان البعد الذي بين الشام واليمن كانت تلك اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال{[39023]} .

قوله : «فَلَما رآهُ » يعني سليمان ، العرش «مستقراً » عنده محمولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ، ف «مُسْتَقِراً » حال ، لأن الرؤية بصرية ، و «عنده » معمول له{[39024]} ، لا يقال إذا وقع الظرف حالاً وجب حذف متعلقه ، فكيف ذكر هنا{[39025]} ؟ لأن الاستقرار هنا ليس هو ذلك الحصول المطلق ، بل المراد به هنا الثابت الذي لا يتقلقل ، قاله أبو البقاء{[39026]} . وقد جعله ابن عطية هو العامل في الظرف الذي كان يجب حذفه ، فقال : وظهر{[39027]} العامل في الظرف من قوله «مُسْتَقِراً » ، وهذا هو المقدر أبداً مع كل ظرف جاء هنا مظهراً ، وليس في كتاب الله مثله{[39028]} ، وما قاله أبو البقاء أحسن{[39029]} على أنه قد ظهر العامل المطلق في قوله :

3964 - فَأَنْتَ لَدَى بُحْبوحَةِ الهُونِ كَائِن{[39030]} *** . . .

وقد تقدم ذلك محققاً في أول الفاتحة{[39031]} .

قوله{[39032]} «أأشكر » معلق «ليبلوني » ، وأم متصلة{[39033]} ، وكذلك قوله : { نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ }{[39034]} . قوله : { ومَنْ شَكَر . . . ومن كفر } يحتمل أن تكون «من » شرطية ، أو موصولة مضمّنة معنى الشرط ، فلذلك دخلت الفاء في الخبر ، والظاهر أن جواب الشرط : الثاني : أو خبر الموصول قوله : { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } ولا بد حينئذ من ضمير يعود على «من » تقديره{[39035]} غني عن شكره ، وقيل الجواب محذوف تقديره : فإنما كفر عليه ، لدلالة مقابله ، وهو قوله { فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } عليه{[39036]} .

فصل :

تقدم معنى الابتلاء ، وقوله : أشكر نعمته أم أكفرها فلا أشكرها ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، أي : يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها ، لأن الشكر قيد{[39037]} النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ، ومن كفر فإن ربي غني{[39038]} عن شكره كريم بالإفضال على من يكفر نعمه{[39039]} .


[38989]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38990]:في ب: سليمان عليه الصلاة والسلام.
[38991]:نفسه: سقط من ب.
[38992]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38993]:انظر الفخر الرازي 24/197.
[38994]:هو محمد بن المنكدر بن عبد الله القرشي التيمي، أبو عبد الله المدني، أحد الأئمة الأعلام، أخذ عن عائشة وأبي هريرة، وغيرهما، وأخذ عنه زيد بن أسلم، ويحيى الأنصاري والزهري، وغيرهم، مات سنة 130 هـ. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/460-461.
[38995]:انظر البغوي 6/283-284.
[38996]:انظر القرطبي 13/205.
[38997]:ما بين القوسين سقط من ب.
[38998]:في ب: لقضية.
[38999]:أن: سقط من ب.
[39000]:في ب: فصار.
[39001]:تلك: سقط من ب.
[39002]:في ب: فظاهر.
[39003]:تعالى: سقط من ب.
[39004]:الفخر الرازي 24/197-198.
[39005]:في ب: وكذلك.
[39006]:انظر الفخر الرازي 24/198.
[39007]:في ب: عر. وهو تحريف.
[39008]:انظر الفخر الرازي 24/198.
[39009]:الكشاف 3/143.
[39010]:في ب: الشيء المطروف.
[39011]:وهو قول ابن جبير وقتادة، انظر البحر المحيط 7/77.
[39012]:البيتان من بحر الطويل، قالتهما امرأة لم تسمّ، وهما في عيون الأخبار لابن قتيبة 4/22، الإنصاف 2/804، والبيت الأول في الكشاف 3/143، البحر المحيط 7/77، وهما في شرح شواهد الكشاف (53). والشاهد فيهما قوله: "أرسلت طرفك" حيث جعل الطرف مما يرسل، وهذا يؤيد أن المراد بالطرف في الآية آلة البصر مؤدى بها الفعل نفسه.
[39013]:في ب: فصل قال.
[39014]:انظر البغوي 6/284.
[39015]:ما بين القوسين سقط م ب.
[39016]:في ب: يزيد. وهو تحريف.
[39017]:انظر البغوي 6/284.
[39018]:المرجع السابق.
[39019]:الطفرة: الوثبة، وقد طفر يطفر طفراً وطفوراً: وثب في ارتفاع. وطفر الحائط: وثبه إلى ما ورائه. اللسان (طفر).
[39020]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39021]:في ب: فالجواب.
[39022]:في ب: طولها. وهو تحريف.
[39023]:انظر الفخر الرازي 24/198.
[39024]:انظر البحر المحيط 7/77.
[39025]:في ب: عنده.
[39026]:قال أبو البقاء: ("مستقراً" أي: ثابتاً غير متقلقل، وليس بمعنى الحصول المطلق، إذ لو كان كذلك لم يذكر) التبيان 2/1009.
[39027]:في ب: فظهر.
[39028]:تفسير ابن عطية 11/211.
[39029]:انظر البحر المحيط 7/77.
[39030]:عجز بيت من بحر الطويل، مجهول القائل، وصدره: لك العزّ إن مولاك عزّ وإن يهن وقد تقدم.
[39031]:عند قوله تعالى: {الحمد لله}[الفاتحة: 2].
[39032]:قوله: سقط من الأصل.
[39033]:قال الأخفش: (أي: لينظر أأشكر أم أكفر، كقولك: جئت لأنظر أزيد أفضل أم عمرو) معاني القرآن 2/650، وانظر أيضاً التبيان 2/1009، البحر المحيط 7/77-78.
[39034]:في ب:...أم تكون من الذين لا يهتدون.
[39035]:في ب: يقدره.
[39036]:انظر البحر المحيط 7/87.
[39037]:في ب: قيل.
[39038]:في الأصل: غني حميد.
[39039]:انظر البغوي 6/284.