الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ} (40)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"قَالَ الّذِي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ" يقول جلّ ثناؤه: قال الذي عنده علم من كتاب الله، وكان رجلاً فيما ذكر من بني آدم... كان يعلم اسم الله الذي إذا دعي به أجاب...

وقوله: "أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: أنا آتيك به قبل أن يصل إليك من كان منك على مدّ البصر...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: من قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته...

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: قبل أن يرجع إليك طرفك من أقصى أثره، وذلك أن معنى قوله "يَرَتَدّ إلَيْكَ" يرجع إليك البصر، إذا فتحت العين غير راجع، بل إنما يمتدّ ماضيا إلى أن يتناهى ما امتدّ نوره. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله إنما أخبرنا عن قائل ذلك "أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ" لم يكن لنا أن نقول: أنا آتيك به قبل أن يرتدّ راجعا "إلَيْكَ طَرْفُكَ" من عند منتهاه.

وقوله: "فَلَمّا رآه مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ" يقول: فلما رأى سليمان عرش ملكة سبأ مستقرّا عنده. وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ظهر عما ترك، وهو: فدعا الله، فأتى به، فلما رآه سليمان مستقرّا عنده...

وقوله: "قالَ هَذَا مِنْ فَضِلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي" يقول: هذا البصر والتمكن والملك والسلطان الذي أنا فيه حتى حمل إليّ عرش هذه في قدر ارتداد الطرف من مأرب إلى الشام، من فضل ربي الذي أفْضَلَه عليّ وعطائه الذي جاد به عليّ، "ليبلوني"، يقول: ليختبرني ويمتحنني، أأشكر ذلك من فعله عليّ، أم أكفر نعمته عليّ بترك الشكر له؟...

وقوله: "وَمَنْ شَكَرَ فإنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ" يقول: ومن شكر نعمة الله عليه، وفضله عليه، فإنما يشكر طلب نفع نفسه، لأنه ليس ينفع بذلك غير نفسه، لأنه لا حاجة لله إلى أحد من خلقه، وإنما دعاهم إلى شكره تعريضا منه لهم للنفع، لا لاجتلاب منه بشكرهم إياه نفعا إلى نفسه، ولا دفع ضرّ عنها. "وَمَنْ كَفَرَ فإنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ" يقول: ومن كفر نعمه وإحسانه إليه، وفضله عليه، لنفسه ظلم، وحظّها بخَس، والله غنّي عن شكره، لا حاجة به إليه، لا يضرّه كفر من كفر به من خلقه، "كريمٌ"، ومِن كرمه إفضاله على من يكفر نعمه، ويجعلها وصلة يتوصل بها إلى معاصيه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} [هو] رجل كان عنده اسم الله الأعظم... وقيل: هو جبريل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان. وقيل: هو سليمان نفسه، كأنه استبطأ العفريت فقال له: أنا أريك ما هو أسرع مما تقول... "علم من الكتاب": من الكتاب المنزل، وهو علم الوحي والشرائع. وقيل: هو اللوح. والذي عنده علم منه: جبريل عليه السلام...

الطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر. ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف... وصف بردّ الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. ومعنى قوله: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [أي] أنك ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك... ويجوز أن يكون هذا مثلاً لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك: افعل كذا في لحظة، وفي ردّة طرف، والتفت ترني، وما أشبه ذلك: تريد السرعة.

{يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنه يحط به عنها عبء الواجب، ويصونها عن سمة الكفران، وترتبط به النعمة ويستمد المزيد. وقيل: الشكر، قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة. وفي كلام بعض المتقدمين: إن كفران النعمة بوار، وقلما أقشعت ناقرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار. واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقاراً، {غَنِىٌّ} عن الشكر {كَرِيمٌ} بالإنعام على من يكفر نعمته، والذي قاله سليمان عليه السلام عند رؤية العرش شاكراً لربه، جرى على شاكلة أبناء جنسه من أنبياء الله والمخلصين من عباده يتلقون النعمة القادمة بحسن الشكر، كما يشيعون النعمة المودعة بجميل الصبر.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قال الذي عنده}. ولما كان لكتب الله من العظمة ما لا يحيطه إلا الله، اشار إلى ذلك بتنكير ما لهذا الذي يفعل مثل هذا الخارق العظيم من ذلك فقال: {علم} تنبيهاً على أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم ليفيد ذلك تعظيم العلم والحث على تعلمه، وبين أن هذا الفضل إنما هو للعلم الشرعي فقال: {من الكتاب} أي الذي لا كتاب في الحقيقة غيره، وهو المنسوب إلينا، وكأنه الذي كان شهيراً في ذلك الزمان، ولعله التوراة والزبور، إشارة إلى أن من خدم كتاباً حق الخدمة كان الله -تعالى كما ورد في شرعنا- سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، أي إنه يفعل له ما يشاء... {فلما رآه} أي العرش. ولما كانت الرؤية قد تكون عن بعد ومجازية، وكذلك العندية، بين أنها حقيقية بإظهار العامل في الظرف ومن حقه في غير هذا السياق الحذف فقال: {مستقراً عنده} أي ثابتاً ثباتاً لا مرية فيه، ما هو بسحر ولا منام لا مثال...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فإذا (الذي عنده علم من الكتاب) يعرض أن يأتي به في غمضة عين قبل أن يرتد إليه طرفه، ولا يذكر اسمه، ولا الكتاب الذي عنده علم منه. إنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله، موهوب سرا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد. وهو أمر يشاهد أحيانا على أيدي بعض المتصلين، ولم يكشف سره ولا تعليله، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية. وهذا أقصى ما يقال في الدائرة المأمونة التي لا تخرج إلى عالم الأساطير والخرافات!

ولقد جرى بعض المفسرين وراء قوله: (عنده علم من الكتاب) فقال بعضهم: إنه التوراة. وقال بعضهم: إنه كان يعرف اسم الله الأعظم. وقال بعضهم غير هذا وذاك. وليس فيما قيل تفسير ولا تعليل مستيقن. والأمر أيسر من هذا كله حين ننظر إليه بمنظار الواقع، فكم في هذا الكون من أسرار لا نعلمها، وكم فيه من قوى لا نستخدمها. وكم في النفس البشرية من أسرار كذلك وقوى لا نهتدي إليها. فحيثما أراد الله هدى من يريد إلى أحد هذه الأسرار وإلى واحدة من هذه القوى فجاءت الخارقة التي لا تقع في مألوف الحياة، وجرت بإذن الله وتدبيره وتسخيره، حيث لا يملك من لم يرد الله أن يجريها على يديه أن يجريها.

وهذا الذي عنده علم من الكتاب، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار.

وقد ذكر بعض المفسرين أنه هو سليمان نفسه -عليه السلام- ونحن نرجح أنه غيره. فلو كان هو لأظهره السياق باسمه ولما أخفاه. والقصة عنه، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر. وبعضهم قال: إن اسمه آصف ابن برخيا ولا دليل عليه.

(فلما رآه مستقرا عنده قال: هذا من فضل ربي، ليبلوني أأشكر أم أكفر؟ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم).

لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب سليمان -عليه السلام- وراعه أن يحقق الله له مطالبه على هذا النحو المعجز؛ واستشعر أن النعمة -على هذا النحو- ابتلاء ضخم مخيف؛ يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه، ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه؛ ويحتاج إلى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم، ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه. والله غني عن شكر الشاكرين، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، فينال من الله زيادة النعمة، وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء. ومن كفر فإن الله (غني) عن الشكر (كريم) يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

و {الذي عنده علم من الكتاب} رجل من أهل الحكمة من حاشية سليمان.

و {مِن} في قوله: {من الكتاب} ابتدائية، أي عنده علم مكتسب من الكتب، أي من الحكمة، وليس المراد بالكتاب التوراة...

وهذه المناظرة بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة، وأن الحكمة مكتسبة لقوله: {عنده علم من الكتاب}، وأن قوة العناصر طبيعة فيها، وأن الاكتساب بالعلم طريق لاستخدام القوى التي لا تستطيع استخدام بعضها بعضاً. فذكر في هذه القصة مثلاً لتغلب العلم على القوة. ولما كان هذان الرجلان مسخرَيْن لسليمان، كان ما اختصا به من المعرفة مزية لهما ترجع إلى فضل سليمان وكرامته أن سخر الله له مثل هذه القوى...

والظاهر أن قوله: {قبل أن تقوم من مقامك} وقوله: {قبل أن يرتد إليك طرفك} مثلان في السرعة والأسرعية، والضمير البارز في {رءاه} يعود إلى العرش.

والاستقرار: التمكن في الأرض وهو مبالغة في القرار...

ولما ذَكر الفضل أضافه إلى الله بعنوان كونه ربّه لإظهار أن فضله عليه عظيم إذ هو عبد ربه. فليس إحسان الله إليه إلا فضلاً محضاً، ولم يشتغل سليمان حين أحضر له العرش بأن يبتهج بسلطانه ولا بمقدرة رجاله ولكنه انصرف إلى شكر الله تعالى على ما منحه من فضل وأعطاه من جند مسخرين بالعلم والقوة، فمزايا جميعهم وفضلهم راجع إلى تفضيله.

وضرب حكمة خُلقية دينية وهي: {من شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كَفر فإن ربي غني كريم}؛ فكل متقرب إلى الله بعمل صالح يجب أن يستحضر أن عمله إنما هو لنفسه يرجو به ثواب الله ورضاه في الآخرة ويرجو دوام التفضل من الله عليه في الدنيا، فالنفع حاصل له في الدارين ولا ينتفع الله بشيء من ذلك.

فالكلام في قوله: {يشكر لنفسه} لام الأجل وليست اللام التي يُعدى بها فعل الشكر في نحو {واشكُروا لي} [البقرة: 152]. والمراد ب {من كفر} من كفر فضل الله عليه بأن عبَد غير الله، فإن الله غني عن شكره وهو كريم في إمهاله ورزقه في هذه الدنيا. وقد تقدم عند قوله فيما تقدم: {قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك} [النمل: 19].

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {فإن ربي غني كريم} دون أن يقول: فإنه غني كريم، تأكيد للاعتراف بتمحض الفضل المستفاد من قوله: {فضل ربي}.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} الفاء للعطف والتعقيب، أي أنه عقب قول صاحب علم الكتاب رآه مستقرا عنده، أي موجودا قارا ثابتا عنده، لا يتصور بعده عنه بعد ذلك، كانت هذه نعمة على سليمان تستوجب الشكر، ولذا قال معلنا أن ذلك اختبار من الله، قال: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} يقرر في هذه الجملة السابقة ما يقرره النبي الملك، يقرر أولا أنه فضل من الله ليس إلا نعمة أعطاها عطاء ومنّا من غير سابق طلب، ويقرر ثانيا أنه يعامله معاملة من يختبره أيكون من الشاكرين للنعمة القائمين بحقها، أم الكافرين الذين يجحدون، ويغترون ويعاندون ويحسبون أن ذلك استحقاق وليس عطاء..

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وينبغي القول أن «الاسم الأعظم» ليس كما يتصوره الكثير بأنّ مفهومه أن يتلفظ الإنسان بكلمة فيكون وراءها الأثر العجيب، بل المراد منه التخلق بذلك الاسم والوصف، أي على الإنسان أن يستوعب «الاسم» في نفسه وروحه، وأن يتكامل علمه وخلقه وتقواه وإيمانه إلى درجة يكون بها مظهراً من مظاهر ذلك الاسم الأعظم، فهذا التكامل المعنوي والروحاني (بواسطة الاسم الأعظم) يوجد في الإنسان مثل هذه القدرة الخارقة للعادة.