قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي : صفتها ، { فيها أنهار من ماء غير آسن } آجن متغير منتن ، قرأ ابن كثير { أسن } بالقصر ، والآخرون بالمد ، وهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسناً ، وآحن وأسن يأسن ، وأجن يأجن ، أسوناً وأجوناً ، إذا تغير ، { وأنهار من خمر لذة } لذيذة . { للشاربين } لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي ، { وأنهار من عسل مصفىً } أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، أنبأنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر ، عن عبد الله بن عمر ، عن حبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة } . قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . { ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار } أي : من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ، { وسقوا ماءً حميماً } شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا دنا منهم يشوي وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم { ف } إذا شربوه ، { فقطع أمعاءهم } فخرجت من أدبارهم ، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معي .
وهذه صورة من صور التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء في المصير :
( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ؛ ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم . كمن هو خالد في النار ، وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ? ) . .
إن هذه الصورة الحسية من النعيم والعذاب ترد في مواضع من القرآن . وقد تجيء معها صور معنوية أو تجيء مجردة . كما أن صور النعيم والعذاب المجردة عن الحسيات تجيء في مواضع أخرى .
والله الذي خلق البشر ، أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يؤثر في قلوبهم ، وما يصلح لتربيتهم . ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم . والبشر صنوف ، والنفوس ألوان ، والطبائع شتى . تلتقي كلها في فطرة الإنسان ، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان . ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب ، وصنوف المتاع والآلام ، وفق علمه المطلق بالعباد . .
هنالك ناس يصلح لتربيتهم ، ولاستجاشة همتهم للعمل كما يصلح لجزائهم ويرضي نفوسهم أن يكون لهم أنهار من ماء غير آسن ، أو أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، أو أنهار من عسل مصفى ، أو أنهار من خمر لذة للشاربين . أو صنوف من كل الثمرات . مع مغفرة من ربهم تكفل لهم النجاة من النار والمتاع بالجنات . . فلهؤلاء ما يصلح لتربيتهم ، وما يليق لجزائهم .
وهنالك ناس يعبدون الله لأنهم يشكرونه على نعمه التي لا يحصونها . أو لأنهم يحبونه ويتقربون إليه بالطاعات تقرب الحبيب للحبيب . أو لأنهم يستحيون أن يراهم الله على حالة لا يحبها . ولا ينظرون وراء ذلك إلى جنة أو إلى نار ، ولا إلى نعيم أو عذاب على الإطلاق ، وهؤلاء يصلح لهم تربية ويصلح لهم جزاء أن يقول الله لهم : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) . . أو أن يعلموا أنهم سيكونون : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . .
ولقد روي عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يصلي حتى تنفر رجلاه . فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ? فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا ? " . .
وتقول رابعة العدوية : " أو لو لم تكن جنة ولا نار لم يعبد الله أحد ، ولم يخشه أحد ? " .
وتجيب سفيان الثوري وقد سألها : ما حقيقة إيمانك ? تقول : " ما عبدته خوفا من ناره ، ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء . عبدته شوقا إليه " . .
وبين هذا اللون وذلك ألوان من النفوس والمشاعر والطباع . . وكلها تجد - فيما جعله الله من نعيم وعذاب ، ومن ألوان الجزاء - ما يصلح للتربية في الأرض ؛ وما يناسب للجزاء عند الله .
والملاحظ عموما أن صور النعيم والعذاب ترق وتشف كلما ترقى السامعون في مراقي التربية والتهذيب على مدى نزول القرآن . وحسب أنواع المخاطبين ، والحالات المتنوعة التي كانت تخاطب بالآيات . وهي حالات ونماذج تتكرر في البشرية في جميع الأعصار .
وهنا نوعان من الجزاء : هذه الأنهار مع كل الثمرات مع المغفرة من الله . والنوع الآخر :
( كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) . .
وهي صورة حسية عنيفة من العذاب ، تناسب جو سورة القتال ، وتتناسب مع غلظ طبيعة القوم . وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام . فالجو جو متاع غليظ وأكل غليظ . والجزاء ماء حميم ساخن وتقطيع للأمعاء ، التي كانت تحش وتلتهم الأكل كالأنعام !
ولن يكون هؤلاء كهؤلاء في الجزاء ، كما أنهم في الحال والمنهج ليسوا سواء . .
بهذا يختم الجولة الأولى التي بدأت بالهجوم عند افتتاح السورة ، واستمرت في معركة متصلة ، عنيفة ، حتى الختام . .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مّصَفّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : صفة الجنة التي وعدها المتقون ، وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه فِيهَا أنهَارٌ مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي : ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح ، يقال منه : قد أَسِنَ ماء هذه البئر : إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت ، فهو يأْسَن أَسَنا ، وكذلك يُقال للرجل إذا أصابته ريح منتنة : قد أَسِن فهو يأْسَن . وأما إذا أَجَن الماء وتغير ، فإنه يقال له : أسِن فهو يأسَن ، ويأسِن أسونا ، وماء آسن . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : فِيها أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسِنٍ يقول : غير متغير .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسِنٍ قال : من ماء غير مُنْتن .
حدثني عيسى بن عمرو ، قال : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، قال : حدثنا مصعب بن سلام ، عن سعد بن طريف ، قال : سألت أبا إسحاق عن ماءٍ غيرِ آسِنٍ قال : سألت عنها الحارث ، فحدثني أن الماء الذي غير آسن تسنيم ، قال : بلغني أنه لا تمسه يد ، وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل في فيه .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ لَبنٍ لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ يقول تعالى ذكره : وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع ، ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار ، فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ للشّارِبِينَ يقول : وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها . كما :
حدثني عيسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد ، قال : حدثنا مصعب ، عن سعد بن طريف ، قال : سألت عنها الحارث ، فقال : لم تدسه المجوس ، ولم ينفخ فيه الشيطان ، ولم تؤذها شمس ، ولكنها فَوْحاء ، قال : قلت لعكرِمة : ما الفوحاء : قال : الصفراء . وكما :
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرِمة ، في قوله : مِنْ لَبن لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ قال : لم يحلب ، وخُفِضت اللذّة على النعت للخمر ، ولو جاءت رفعا على النعت للأنهار جاز ، أو نصبا على يتلذّذ بها لذّة ، كما يقال : هذا لك هبة . كان جائزا فأما القراءة فلا أستجيزها فيها إلا خفضا لإجماع الحجة من القرّاء عليها .
وقوله : وأنهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى يقول : وفيها أنهار من عسل قد صُفّي من القَذى ، وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية ، وإنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلاً جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها ، فهو من أجل ذلك مصّفى ، قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية ، لأنه كان في شمع فصُفي منه .
وقوله : ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ يقول تعالى ذكره : ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ يقول : وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في الدنيا ، ثم تابوا منها ، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها .
وقوله : كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ يقول تعالى ذكره : أمّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا ، كمن هو خالد في النار . وابُتدىء الكلام بصفة الجنة ، فقيل : مثل الجنة التي وُعد المتقون ، ولم يقل : أمّن هو في الجنة . ثم قيل بعد انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ . وإنما قيل ذلك كذلك ، استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام ، ولدلالة قوله : كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ على معنى قوله : مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ .
وقوله : وَسُقُوا ماءً حَمِيما يقول تعالى ذكره : وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم . كما :
حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ ، قال : حدثنا حَيْوة بن شُريح الحِمصِيّ ، قال : حدثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو ، قال : ثني عبيد الله بن بشر ، عن أبي أُمامة الباهلي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : وَيُسْقَى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ قال : «يُقَرّبُ إلَيْهِ فَيَتَكَرّهُهُ ، فإذَا أُدْنَى مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ ، فإذا شَرِبَ قَطّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ » . قال : يقول الله وَسُقُوا ماءً حَمِيما ، فَقَطّعَ أمْعاءَهُمْ يقول الله عزّ وجلّ يَشْوِي الوُجُوهَ ، بِئْسَ الشّرَابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقا .
استئناف بياني لأن ما جرى من ذكر الجنة في قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتتٍ تجري من تحتها الأنهار } [ محمد : 12 ] مما يستشرف السامعُ إلى تفصيل بعض صفاتها ، وإذ قد ذكر أنها تجري من تحتها الأنهار مُوهم السامع أنها أنهار المياه لأن جري الأنهار أكمل محاسن الجنات المرغوب فيها ، فلما فُرغ من توصيف حال فريقي الإيمان والكفر ، ومما أعد لكليهما ، ومن إعلان تباين حاليهما ثُني العنان إلى بيان ما في الجنة التي وعد المتقون ، وخص من ذلك بيان أنواع الأنهار ، ولما كان ذلك موقع الجملة كان قوله : { مثَل الجنة } مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : مَا سيوصف أو ما سيتلى عليكم ، أو مما يتلى عليكم .
وقوله : { كمن هو خالد في النار } كلام مستأنف مقدر فيه استفهام إنكاري دلّ عليه ما سبق من قوله : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زيّن له سوء عمله } [ محمد : 14 ] . والتقدير : أكَمَنْ هو خالد في النار . والإنكار متسلط على التشبيه الذي هو بمعنى التسوية . ويجوز أن تكون جملة { مثَل الجنة } بدلاً من جملة { أفمن كان على بينة من ربه } فهي داخلة في حيز الاستفهام الإنكاري . والخبر قوله : { كمن هو خالد في النار } ، أي كحال من هو خالد في النار وذلك يستلزم اختلاف حال النار عن حال الجنة ، فحصل نحو الاحتباك إذ دل { مَثَل الجنة } على مَثَل أصحابها ودلّ مثل من هو خالد في النار على مثل النار .
والمقصود : بيان البَون بين حالي المسلمين والمشركين بذكر التفاوت بين حالي مصيرهما المقرر في قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعمل الصالحات جناتٍ } [ الحج : 23 ] إلى آخره ، ولذلك لم يترك ذكر أصحاب الجنّة وأصحاب النار في خلال ذكر الجنة والنار فقال : { مثل الجنة التي وُعد المتقون } وقال بعده { كمن هو خالد في النار } . ولقصد زيادة تصوير مكابرة من يُسَوِّي بين المتمسك ببينةِ ربه وبين التابع لهواه ، أي هو أيضاً كالذي يسوي بين الجنّة ذات تلك الصفات وبين النار ذاتتِ صفاتٍ ضدها .
وفيه اطراد أساليب السورة إذ افتتحت بالمقابلة بين الذين كفروا والذين آمنوا ، وأعقب باتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق ، وثُلّثَ بقوله : { أفمن كان على بيّنة من ربّه } الخ . والمثل : الحال العجيب .
وجملة { فيها أنهار } وما عطف عليها تفصيل للإجمال الذي في جملة { مَثل الجنة } ، فهو استئناف ، أو بدل مفصَّل من مجمل على رأي من يثبته في أنواع البدل .
والأنهار : جمع نهْر ، وهو الماء المستبحر الجاري في أخدود عظيم من الأرض ، وتقدم في قوله تعالى : { قال إن الله مبْتلِيكم بنهَر } في سورة البقرة ( 249 ) .
فأما إطلاق الأنهار على أنهار الماء فهو حقيقة ، وأما إطلاق الأنهار على ما هو من لبن وخَمر وعَسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ ، أي مماثلة للأنهار ، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا ، فإن مرأى أنهار من هذه الأصناف مرأى مُبهج .
ويجوز أن تكون مماثلة هذه الأصناف للأنهار في بعض صفات الأنهار وهي الاستبحار . وهذه الأصناف الخمسة المذكورة في الآية كانت من أفضل ما يتنافسون فيه ومن أعزّ ما يتيسر الحصول عليه ، فكيف الكثير منها ، فكيف إذا كان منها أنهار في الجنة . وتناولُ هذه الأصناف من التَفَكُّهِ الذي هو تنعم أهل اليسار والرفاهية .
وقد ذكر هنا أربعة أشربة هي أجناس أشربتهم ، فكانوا يستجيدون الماء الصافي لأن غالب مياههم من الغُدران والأحواض بالبادية تمتلىء من ماء المطر أو من مرور السيول فإذا استقرت أياماً أخذت تتغير بالطحلب وبما يدخل فيها من الأيدي والدلاء ، وشرب الوحوش وقليلٌ البلاد التي تكون مجاورة الأنهار الجارية . وكذلك اللبن كانوا إذا حلبوا وشربوا أبقوا ما استفضلوه إلى وقت آخر لأنهم لا يحلبون إلا حَلْبة واحدة أو حلْبتين في اليوم فيقع في طعم اللبن تغيير . فأما الخمر فكانت قليلة عزيزة عندهم لقلة الأعناب في الحجاز إلا قليلاً في الطائف ، فكانت الخمر تجتلب من بلاد الشام ومن بلاد اليمن ، وكانت غالية الثمن وقد ينقطع جلبها زماناً في فصل الشتاء لعسر السير بها في الطرق وفي أوقات الحروب أيضاً خوف انتهابها .
والعسل هو أيضاً من أشربتهم ، قال تعالى في النحل ( 69 ) { يَخرج من بطونها شَراب مختلف ألوانه } والعرب يقولون : سقاه عسلاً ، ويقولون : أطعمه عسلاً . وكان العسل مرغوباً فيه يجتلب من بلاد الجبال ذات النبات المستمر . فأما الثمرات فبعضها كثير عندهم كالتمر وبعضها قليل كالرمان .
والآسِن : وصف من أسَن الماء من باب ضرب ونصر وفرح ، إذا تغيّر لونه . وقرأه ابن كثير { أسِنٍ } بدون ألف بعد الهمزة على وزن فَعِللٍ للمبالغة .
والخمر : عصير العنب الذي يترك حتى يصيبه التخمر وهو الحموضة مثل خمير العجين . و { لَذَة } وصفٌ وليس باسم ، وهو تأنيث اللذّ ، أي اللذيذ قال بشار :
ذكرت شبابي اللذّ غير قريب *** ومجلس لهو طاب بين شروب
واللّذاذة : انفعال نفساني فيه مسرة ، وهي ضد الألم وأكثر حصوله من الطعوم والأشربة والملامس البدنية ، فوصف خمر هنا بأنها { لذة } معناه يجد شاربها لذاذة في طعمها ، أي بخلاف خمر الدنيا فإنها حريقة الطعم فلولا ترقب ما تفعله في الشارب من نشوة وطرب لما شربها لحُموضة طعمها .
والعسل المصفى : الذي خُلِّص مما يخالط العسل من بقايا الشمع وبقايا أعضاء النحل التي قد تموت فيه ، وتقدم الكلام على العسل وتربيته في سورة النحل .
ومعنى { من كلّ الثمرات } أصناف من جميع أجناس الثمرات ، فالتعريف في { الثمرات } للجنس ، و { كُلّ } مستعملة في حقيقتها وهو الإحاطة ، أي جميع ما خلق الله من الثمرات مما علموه في الدنيا وما لم يعلموه مما خلقه الله للجنة .
و { مِن } تبعيضية ، وهذا كقوله تعالى : { فيهما من كل فاكهة زوجان } [ الرحمن : 52 ] .
و { مغفرة } عطف على { أنهار } وما بعده ، أي وفيها مغفرة لهم ، أي تجاوز عنهم ، أي إطلاق في أعمالهم لا تكليف عليهم كمغفرته لأهل بدر إذ بينت بأن يعملوا ما شاؤوا في الحديث « لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » وقد تكون المغفرة كناية عن الرضوان عليهم كما قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] .
وتقدير المضاف في { مثله } ظاهر للقرينة . وقوله : { وسُقوا ماءً حميعاً } جيء به لمقابلة ما وصف من حال أهل الجنة الذي في قوله : { فيها أنهار من ماء غير آسن } إلى قوله : { من كل الثمرات } ، أي أن أهل النار محرومون من جميع ما ذكر من المشروبات . وليسوا بذائقين إلا الماء الحميم الذي يقطع أمعاءهم بفور سقيه . ولذلك لم يعرج هنا على طعام أهل النار الذي ذكر في قوله تعالى : { لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم } [ الواقعة : 52 54 ] وقوله : { أذلك خير نُزُلاً أم شجرة الزقوم } [ الصافات : 62 ] إلى قوله : { فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم } [ الصافات : 66 67 ] .
وضمير { سقوا } راجع إلى { من هو خالد في النار } باعتبار معنى ( من ) وهو الفريق من الكافرين بعد أن أعيد عليه ضمير المفرد في قوله : { هو خالد } .
والأمعاء : جمع مِعًى مقصوراً وبفتح الميم وكسرها ، وهو ما ينتقل الطعام إليه بعد نزوله من المعدة . ويسمى عَفِج بوَزن كَتِف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: صفة الجنة التي وعدها المتقون، وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه "فِيهَا أنهَارٌ مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ "يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي: ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح، يقال منه: قد أَسِنَ ماء هذه البئر: إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت...
وقوله: "وأنهارٌ مِنْ لَبنٍ لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ" يقول تعالى ذكره: وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع، ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار، فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه.
وقوله: "وأنهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ للشّارِبِينَ" يقول: وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها...
وقوله: "وأنهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى" يقول: وفيها أنهار من عسل قد صُفّي من القَذى، وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية، وإنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلاً جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها، فهو من أجل ذلك مصّفى، قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية، لأنه كان في شمع فصُفي منه.
وقوله: "ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ" يقول تعالى ذكره: ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار. "وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ" يقول: وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في الدنيا، ثم تابوا منها، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها.
وقوله: "كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ" يقول تعالى ذكره: أمّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا، كمن هو خالد في النار. وابُتدئ الكلام بصفة الجنة، فقيل: مثل الجنة التي وُعد المتقون، ولم يقل: أمّن هو في الجنة، ثم قيل بعد انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها "كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ"، وإنما قيل ذلك كذلك، استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام، ولدلالة قوله: "كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ" على معنى قوله: "مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ".
وقوله: "وَسُقُوا ماءً حَمِيما" يقول تعالى ذكره: وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{مثل الجنة التي وُعد المتقون} من حياتكم هذه، لو كانت جناتكم في الدنيا على المثل الذي وصف في الآية: أليس كانت نفس كل أحد ترغب فيها، وتحرص على طلبها، لتكون تلك الجنة له، فما بالُكم لا ترغبون في تلك الجنة التي وُعد المتقون في الآخرة، لا ترغبون فيها، ولا تحرصون على طلبها؟ والله أعلم. ويخرّج على هذا التأويل قوله تعالى: {كمن هو خالد في النار} أي ليس من كان خالدا في جنة من جناتكم التي ما ذكر وصفها كمن هو خالد في نار من نيرانكم... أي ليس من وعد له الجنة التي وصفها، ونعتها كمن وعد له النار التي وصْفُها ما ذكر...
{فيها أنهار من ماء غير آسنٍ} الآية؛ يخبر أنه يكون في الجنة من المياه والخمور والألبان وما ذكر ليس كالتي في الدنيا، لأن المياه في الدنيا تتغير بأحد وجهين: إما لنجاسة وآفة تصيبهما، أو لطول الزمان والمُكث، فيخبر أن ليس في الجنة شيء يُغيّر مياهها، وكذلك اللبن في الدنيا يتغيّر، ويفسُد عن قريب إذا تُرك لما ذُكر، فيُخبر أن ألبان الجنة لا تفسُد للترك، ولا يصيبها شيء، فيُفسِدها، ويُخرجها عن طعم اللبن...
{وأنهار من خمر لذّة للشاربين} يُخبِر أن الخمور في الجنة مما يتلذّذ بها أهلها عند الشرب ليست كخمور الدنيا يتكرّهها أهلها عند شربها، ويعبِسون وجوههم عند التناول منها...
{وأنهار من عسلٍ مُصفّى} أي وأنهار من عسل خُلِق، وأُنشِئ مُصفّى، لا كُدورة فيه، لا أنه كان كدِرًا، فصُفّيَ، أو كان خُلق بعضه كدِرا، وبعضه مُصفّى، ولكن خُلق كله مُصفّى في الابتداء...
{ولهم فيها من كل الثمرات} التي عرفوها في الدنيا، وأرادوها، أو يقول: {ولهم فيها من كل الثمرات} التي يريدون فيها...
{ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسُقوا ماءا حميما فقطّع أمعاءهم} أي ليس من وعد له ما ذكر من الجنة، وهو خالد فيها مُتنعّم بما ذكر من ألوان الثمار والنّعم ما ذكر من المياه والخمور والألبان {كمن هو خالد في النار}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ} كمن هو خالد في النار؟ قلت: هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، ودخوله في حيزه، وانخراطه في سلكه، وهو قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِه} فكأنه قيل: أمثل الجنة كمن هو خالد في النار، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أمثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف {كمن هو خالد في النار} فتكون الكاف في قوله: {كمن} مؤكدة في التشبيه، ويجيء قوله: {فيها أنهار} في موضع الحال على هذا التأويل. {وما غير آسن} معناه غير متغير...
{ومغفرة من ربهم} معناه: وتنعيم أعطته المغفرة وسببته، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة...
... قال في الخمر {لذة للشاربين} ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفى للناظرين لأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص، فرب طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر، فقال: {لذة للشاربين} بأسرهم ولأن الخمر كريهة الطعم، فقال: {لذة} أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم، وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس...
{ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم}. بعد ذكر المشروب أشار إلى المأكول، ولما كان في الجنة الأكل للذة لا للحاجة ذكر الثمار فإنها تؤكل للذة بخلاف الخبز واللحم...
{كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}... بيان لمخالفتهم في سائر أحوال أهل الجنة فلهم أنهار من ماء غير آسن، ولهم ماء حميم، فإن قيل المشابهة الإنكارية بالمخالفة على ما ثبت...كأنه قال: للمؤمن أكل وشرب مطهر طاهر لا يجتمع في جوفهم فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء حاجة، وللكافر ماء حميم في أول ما يصل إلى جوفهم يقطع أمعاءهم ويشتهون خروجه من جوفهم، وأما الثمار فلم يذكر مقابلها، لأن في الجنة زيادة مذكورة فحققها بذكر أمر زايد.
الماء الحار يقطع أمعاءهم لأمر آخر غير الحرارة، وهي الحدة التي تكون في السموم المدوفة، وإلا فمجرد الحرارة لا يقطع، فإن قيل قوله تعالى: {فقطع} بالفاء يقتضي أن يكون القطع بما ذكر، نقول نعم، لكنه لا يقتضي أن يقال: يقطع، لأنه ماء حميم فحسب، بل ماء حميم مخصوص يقطع.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
واختلف في تعيين كل، فهو منها لماذا يكون ينزل، وبدئ من هذه الأنهار بالماء، وهو الذي لا يستغنى عنه في المشروبات، ثم باللبن، إذ كان يجري مجرى الطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم، ثم بالخمر، لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس إلى ما تلتذ به، ثم بالعسل، لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم، فهو متأخر في الهيئة...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
{وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} معناه: وتنعيمٌ أعطته المغفرةُ وَسَّبَّبَتْهُ، وإلاَّ فالمغفرة إنَّما هي قبل دخول الجَنَّةِ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{مثل الجنة} أي البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها...
. {التي وعد المتقون} أي الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن كل فعل لم يدل عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين حتى انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: مقبل عليه بكليته فهو متبع، ومعرض عنه جملة، ومستمع غير منتفع...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى؛ ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم. كمن هو خالد في النار، وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم؟).. إن هذه الصورة الحسية من النعيم والعذاب ترد في مواضع من القرآن. وقد تجيء معها صور معنوية أو تجيء مجردة. كما أن صور النعيم والعذاب المجردة عن الحسيات تجيء في مواضع أخرى. والله الذي خلق البشر، أعلم بمن خلق، وأعرف بما يؤثر في قلوبهم، وما يصلح لتربيتهم. ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم. والبشر صنوف، والنفوس ألوان، والطبائع شتى. تلتقي كلها في فطرة الإنسان، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان. ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب، وصنوف المتاع والآلام، وفق علمه المطلق بالعباد.. هنالك ناس يصلح لتربيتهم، ولاستجاشة همتهم للعمل كما يصلح لجزائهم ويرضي نفوسهم أن يكون لهم أنهار من ماء غير آسن، أو أنهار من لبن لم يتغير طعمه، أو أنهار من عسل مصفى، أو أنهار من خمر لذة للشاربين. أو صنوف من كل الثمرات. مع مغفرة من ربهم تكفل لهم النجاة من النار والمتاع بالجنات.. فلهؤلاء ما يصلح لتربيتهم، وما يليق لجزائهم. وهنالك ناس يعبدون الله لأنهم يشكرونه على نعمه التي لا يحصونها. أو لأنهم يحبونه ويتقربون إليه بالطاعات تقرب الحبيب للحبيب. أو لأنهم يستحيون أن يراهم الله على حالة لا يحبها. ولا ينظرون وراء ذلك إلى جنة أو إلى نار، ولا إلى نعيم أو عذاب على الإطلاق، وهؤلاء يصلح لهم تربية ويصلح لهم جزاء أن يقول الله لهم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا).. أو أن يعلموا أنهم سيكونون: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)...
والملاحظ عموما أن صور النعيم والعذاب ترق وتشف كلما ترقى السامعون في مراقي التربية والتهذيب على مدى نزول القرآن. وحسب أنواع المخاطبين، والحالات المتنوعة التي كانت تخاطب بالآيات. وهي حالات ونماذج تتكرر في البشرية في جميع الأعصار. وهنا نوعان من الجزاء: هذه الأنهار مع كل الثمرات مع المغفرة من الله. والنوع الآخر: (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم).. وهي صورة حسية عنيفة من العذاب، تناسب جو سورة القتال، وتتناسب مع غلظ طبيعة القوم. وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام. فالجو جو متاع غليظ وأكل غليظ. والجزاء ماء حميم ساخن وتقطيع للأمعاء، التي كانت تحش وتلتهم الأكل كالأنعام! ولن يكون هؤلاء كهؤلاء في الجزاء، كما أنهم في الحال والمنهج ليسوا سواء.. بهذا يختم الجولة الأولى التي بدأت بالهجوم عند افتتاح السورة، واستمرت في معركة متصلة، عنيفة، حتى الختام..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فأما إطلاق الأنهار على أنهار الماء فهو حقيقة، وأما إطلاق الأنهار على ما هو من لبن وخَمر وعَسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ، أي مماثلة للأنهار، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا، فإن مرأى أنهار من هذه الأصناف مرأى مُبهج. ويجوز أن تكون مماثلة هذه الأصناف للأنهار في بعض صفات الأنهار وهي الاستبحار. وهذه الأصناف الخمسة المذكورة في الآية كانت من أفضل ما يتنافسون فيه ومن أعزّ ما يتيسر الحصول عليه، فكيف الكثير منها، فكيف إذا كان منها أنهار في الجنة. وتناولُ هذه الأصناف من التَفَكُّهِ الذي هو تنعم أهل اليسار والرفاهية. وقد ذكر هنا أربعة أشربة هي أجناس أشربتهم، فكانوا يستجيدون الماء الصافي لأن غالب مياههم من الغُدران والأحواض بالبادية تمتلئ من ماء المطر أو من مرور السيول فإذا استقرت أياماً أخذت تتغير بالطحلب وبما يدخل فيها من الأيدي والدلاء، وشرب الوحوش وقليلٌ البلاد التي تكون مجاورة الأنهار الجارية. وكذلك اللبن كانوا إذا حلبوا وشربوا أبقوا ما استفضلوه إلى وقت آخر لأنهم لا يحلبون إلا حَلْبة واحدة أو حلْبتين في اليوم فيقع في طعم اللبن تغيير. فأما الخمر فكانت قليلة عزيزة عندهم لقلة الأعناب في الحجاز إلا قليلاً في الطائف، فكانت الخمر تجتلب من بلاد الشام ومن بلاد اليمن، وكانت غالية الثمن وقد ينقطع جلبها زماناً في فصل الشتاء لعسر السير بها في الطرق وفي أوقات الحروب أيضاً خوف انتهابها. والعسل هو أيضاً من أشربتهم ...
...فأما الثمرات فبعضها كثير عندهم كالتمر وبعضها قليل كالرمان...
والخمر: عصير العنب الذي يترك حتى يصيبه التخمر وهو الحموضة مثل خمير العجين. و {لَذَة} وصفٌ وليس باسم، وهو تأنيث اللذّ، أي اللذيذ...
.والعسل المصفى: الذي خُلِّص مما يخالط العسل من بقايا الشمع وبقايا أعضاء النحل التي قد تموت فيه...
{من كلّ الثمرات} أصناف من جميع أجناس الثمرات، فالتعريف في {الثمرات} للجنس، و {كُلّ} مستعملة في حقيقتها وهو الإحاطة، أي جميع ما خلق الله من الثمرات مما علموه في الدنيا وما لم يعلموه مما خلقه الله للجنة. و {مِن} تبعيضية...
و {مغفرة} عطف على {أنهار} وما بعده، أي وفيها مغفرة لهم، أي تجاوز عنهم...
. {وسُقوا ماءً حميماً} جيء به لمقابلة ما وصف من حال أهل الجنة الذي في قوله: {فيها أنهار من ماء غير آسن} إلى قوله: {من كل الثمرات}، أي أن أهل النار محرومون من جميع ما ذكر من المشروبات. وليسوا بذائقين إلا الماء الحميم الذي يقطع أمعاءهم بفور سقيه. ولذلك لم يعرج هنا على طعام أهل النار الذي ذكر في قوله تعالى: {لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم} [الواقعة: 52- 54] وقوله: {أذلك خير نُزُلاً أم شجرة الزقوم} [الصافات: 62] إلى قوله: {فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم} [الصافات: 66- 67]. وضمير {سقوا} راجع إلى {من هو خالد في النار} باعتبار معنى (من) وهو الفريق من الكافرين بعد أن أعيد عليه ضمير المفرد في قوله: {هو خالد}. والأمعاء: جمع معي مقصوراً وبفتح الميم وكسرها، وهو ما ينتقل الطعام إليه بعد نزوله من المعدة. ويسمى عَفِج بوَزن كَتِف.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنّة، لكلّ منها سائله ومحتواه الخاص، ثمّ تتحدث عن فواكه الجنّة، وأخيراً عن بعض المواهب المعنوية...
(ومغفرة من ربّهم) إذ ستمحو رحمته الواسعة كل هفواتهم وسقطاتهم، وسيمنحهم الله الاطمئنان والهدوء والرضى، ويجعلهم من المرضيين عنده والمحبّبين إليه، وسيكونون مصداق لقوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)...
وصف آخر للجنّة: إنّ هذه الآية وصف لمصير كلّ من المؤمنين والكافرين، فالفئة الأولى الذين يعملون الصالحات، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم. وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها...