إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَٰلِدٞ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمٗا فَقَطَّعَ أَمۡعَآءَهُمۡ} (15)

{ مثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } استئنافٌ مَسُوقٌ لشرحِ مَحَاسنِ الجنَّةِ الموعودةِ آنِفاً للمؤمنينَ ، وبيانِ كيفيةِ أنهارِها التي أُشيرَ إلى جريانِها من تحتِها ، وعُبِّرَ عنهُم بالمتقينَ إيذاناً بأنَّ الإيمانَ والعملَ الصالَح من بابِ التقوى الذي هُو عبارةٌ عن فعلِ الواجباتِ بأسرِها وتركِ السيئاتِ عن آخرِها ، ومَثَلُها : وصفُها العجيبُ الشأنِ . وهُو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ فقدَّرهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيلٍ : مثلُ الجنةِ ما تسمعونَ . وقولُه تعالى : { فِيهَا أَنْهَارٌ } إلخ مفسرٌ لَهُ وقدَّرهُ سيبويهِ فيما يُتلَى عليكُم مَثَلُ الجنةِ ، والأولُ هو الأنسبُ لصدرِ النظمِ الكريمِ ، وقيلَ المَثَلُ زائدةٌ كزيادةِ الاسمِ في قولِ مَنْ قالَ : [ الطويل ]

إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عليكما *** [ ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ]{[731]}

والجنةُ مبتدأٌ خبرُهُ فيها أنهارٌ إلخ . { من ماء غَيْرِ آسِنٍ } أيْ غيرِ متغيرِ الطعمِ والرَّائحةِ . وقُرِئ غيرِ أَسِنٍ . { وَأَنْهَارٌ من لَبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } بأنْ صارَ قارِصاً وَلاَ خَازِراً كألبانِ الدُّنيا . { وأنهار مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ للشاربين } لذيذةٍ ليسَ فيها كراهةُ طعمٍ وريحٍ ولا غائلةُ سُكرٍ ولا خُمارٌ ، وإنما هيَ تلذذٌ محضٌ . ولذةٍ إمَّا تأنيثُ لذَ بمعنى لذيذٍ ، أو مصدرٌ نُعتَ به مبالغةً . وقُرِئ لذةٌ بالرفعِ على أنَّها صفةُ أنهارٌ ، وبالنصبِ على العلَّةِ أي لأجلِ لذةِ الشاربينَ { وأنهار منْ عَسَلٍ مصَفًّى } لا يُخالطُه الشمعُ وفضلاتُ النحلِ وغيرُها . وفي هذا تمثيلٌ لما يَجْري مَجرى الأشربةِ في الجنةِ بأنواعِ ما يُستطابُ منها ويُستلذُّ في الدُّنيا بالتخليةِ عمَّا يُنغصها ويُنقصها والتحليةِ بما يُوجبُ غزارتُها ودوامَها . { وَلَهُمْ فِيهَا } مع ما ذُكَر من فنونِ الأنهارِ { مِن كُل الثمرات } أيْ صنفٌ من كلِّ الثمراتِ { وَمَغْفِرَةٌ } أي ولهم مغفرةٌ عظيمةٌ لا يُقادَرُ قَدرُها .

وقولُه تعالى : { من رَبّهِمُ } متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لمغفرةٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٌ من ربِّهم . وقولُه تعالى : { كَمَنْ هُوَ خالد فِي النار } خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ أمَّنْ هو خالدٌ في هذه الجنةِ حسبما جرى به الوعدُ كمن هو خالدٌ في النَّارِ كما نطقَ بهِ قولُه تعالى : والنَّارُ مَثْوىً لَهُم ، وقيل هو خبرٌ لَمثَلُ الجنةِ على أنَّ في الكلامِ حذفاً ، تقديرُهُ أمثلُ الجنةِ كمثلِ جزاءِ من هُو خالدٌ في النَّارِ أو أمثلُ أهلِ الجنةِ كمثلِ من هو خالدٌ في النارِ ، فعُرّيَ عن حرفِ الإنكارِ وحُذفَ ما حذفَ تصويراً لمكابرةِ مَن يُسوي بين المتمسكِ بالبينةِ وبين التابعِ للهوى بمكابرةِ من سوَّى بين الجنةِ الموصوفةِ بما فُصِّلَ من الصفاتِ الجليلةِ وبين النارِ . { وَسُقُوا مَاء حَمِيماً } مكانَ تلك الأشربةِ { فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } من فرْطِ الحرارةِ قيل إذا دنَا منهم شَوَى وجوهَهم وانمازتْ فروةُ رؤوسِهم فإذا شربوُه قطَّع أمعاءَهم .


[731]:وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه (ص 214)، والأغاني (13/40)؛ وخزانة الأدب (4/337، 340، 342) والعقد الفريد (2/78)، (3/57)؛ ولسان العرب (عذر)، وبلا نسبة في أمالي الزجاج (ص 63)؛ وشرح الأشموني (2/307).