قوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } لما بين الفرق بين في الاهتداء والإضلال بين الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما .
قوله : «مثل الجنة » فيها أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ وخبره مقدر ، فقدره النضْرُ بنُ شُمَيْل : مثل الجنة ما يسمعون «فما يسمعون » خبر ، و{ فِيهَا أَنْهَارٌ } مفسر له . وقدره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة .
والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل{[51304]} . قال سيبويه : المثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة ، وذلك لا يقتضي مشابهة .
الثاني : أن مثل زائدة{[51305]} تقديره : الجنَّةُ التي وعد المتقون فيها أنهار . ونظير زيادة مثل هنا زيادة «اسم » في قوله :
4467 إلَى الْحَوْلِ ثُمَ اسْمُ السَّلاَم عَلَيْكُمَا *** . . . . . . . . . . . . . . . {[51306]}
الثالث : أن مثل الجنة مبتدأ ، والخبر قوله : «فيها أنهار »{[51307]} ، وهذا ينبغي أن يمتنع ؛ إذ لا عائد من الجملة إلى المبتدأ ، ولا ينفع كون الضمير عائداً على ما أضيف إليه المبتدأ .
الرابع : أن مثل الجنة مبتدأ خبره { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار }{[51308]} فقدره ابن عطية : أمثل أهل الجنة كمن هو خالد ( في النار ) ( فقدر{[51309]} حرف الإنكار ومضافاً ليصحَّ .
وقدره الزمخشري أمثل الجنة كمن جزاؤه{[51310]} من هو خالد ) والجملة من قوله : { فِيهَا أَنْهَارٌ } على هذا فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : هي حال من الجنة ، أي مستقرة فيها أنهار .
الثاني : أنها خبر لمبتدأ مضمر ، أي هي فيها أنهار ، كأن قائلاً قال : ما فيها ؟ فقيل : فيها أنهار{[51311]} .
الثالث : أن تكون تكريراً للصلة ، لأنها في حكمها ، ألا ترى إلى أنه يصح قولك :
التي فيها أنهار{[51312]} .
وإنما أعري{[51313]} قوله مثل الجنة تصوير المكابرة من أن يسوّي بين المستمسك بالبينة وبين التابع هواه ، كمن يسوّي بين الجنة التي صفتها كيت وكيت وبين النار التي صفتها أن يسقي أهلُها الحَمِيم . ونظيره قوله القائل رحمه الله :
4468 أَفْرَحُ أَنْ اُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنتْ *** أُورثَ ذَوداً شَصَائِصاً نُبْلاً{[51314]}
هذا كلام منكر الفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تَعَرِّيه من حرف الإنكار . وذكر ذلك كله الزمخشري{[51315]} . وقرأ علي بن أبي طالب : مِثَالُ الجَنَّةِ{[51316]} . وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن مسعود : أَمْثَالُ بالجمع{[51317]} .
قوله : { غَيْرِ آسِنٍ } قرأ ابن كثير : أًسِن بزنة حَذِرٍ ، وهو اسم فاعل من أَسِنَ{[51318]} بالكسر يَأسنُ ، فهو أَسِنٌ كَحَذر يحذر فهو حَذِر . الباقون آسِن بزنة ضَارِبٍ من : أَسَنَ بالفتح يأسن ، يقال : أَسَنَ المَاءُ بالفتح يَأسِنُ ويَأسُنُ بالكسر والضم أُسُوناً . وكذا ذكره ثَعْلَبُ{[51319]} في فصيحة{[51320]} . فهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسناً وأَجِن يَأجنُ ، وأَسِنَ يَأسُنُ ويَأسِنُ ، وأَجَن يَأجُنُ أُسُوناً وأُجُوناً{[51321]} . وقال اليَزِيدِيُّ{[51322]} يقال : أَسِنَ بالكسر يَأسَنُ بالفتح أَسَناً أي تغير طعمه ، وأما أَسِنَ الرَّجُلُ إذا دخل بئراً فأصابه من ريحها ما جعل في رأسه دواراً فأَسِنَ بالكسر فقط{[51323]} قال الشاعر :
4469 قَدْ أَتْرُكَُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ *** يَمِيدُ فِي الرُّمْحِ مَيْدَ المَائِحِ الأَسِنِ{[51324]}
وقرئ يَسِنٍ{[51325]} بالباء بدل من الهمزة . قال أبو علي : هو تخفيف أسن وهو تخفيف غريب{[51326]} .
قوله : { لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } صفة ل «لَبَنٍ » .
قوله : «لَذَّةٍ » يجوز أن يكون تأنيث «لَذٍّ » ولَذٌّ بمعنى لَذِيدٍ ، ولا تأويلَ على هذا . ويجوز أن يكون مصدراً وصف به{[51327]} ، ففيه التأويلات المشْهُورَة{[51328]} . قال ابن الخطيب : يحتمل أن يقال : ما ثَبَتَتْ لذَّتُهُ{[51329]} يقال : كعام لَذٌّ ولَذِيدٌ ، وأَطْعِمَةٌ لَذَّة ولذيذة ، ويحتمل أن يكون ذلك وصفاً بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحكيم : هو حَكِيمٌ كله ، وللعاقل : هو عاقل كله{[51330]} . والعامة على جرِّ «لَذَّة » صفة لخمر . وقرئ بالنصب على المفعول له وهي تؤيد المصدرية في قراءة العامة . وبالرفع صفة «لأنهار » . ولم تجمع ، لأنها مصدر إن قيل به وإلا فلأنها صفة لجمع غير عاقل ، وهو يعامل معاملة المؤنثة الواحدة{[51331]} .
قوله : { مِّنْ عَسَلٍ } نقلوا في عسل التذكير والتأنيث ، وجاء القرآن على التذكير في قوله : «مُصَفًّى » والْعَسَلاَنُ العدو{[51332]} ، وأكثر استعماله في الذِّئْبِ ، يقال : عَسَلَ الذّئبُ والثعلب . وأصله من عسلان الرمح وهو اهتزازه ، فكأن العادي يَهُزّ أعضَاءَهُ ويُحركها ، قال الشاعر :
4470 لَدْنٌّ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ *** فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ{[51333]}
وكنى بالعُسَيْلَة عن الجِمَاع ، لما بينهما . قال عليه الصلاة والسلام : «حتى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ »{[51334]}
قال ابن الخطيب : اختار هذه الأنهار من الأنهار الأربعة ؛ لأن المشروب إما أن يُشْرَبَ لِطَعْمِهِ أو لغير طعمه ، فإن كان للطعم فالمطعوم تسعة : المُرّ والمَالِح ، والحريف ، والحَامِض ، والعَفِصُ{[51335]} والقَابضُ والتّفه ، والحلو ، والدَّسِم . وألذها الحُلو والدَّسِم ، لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسَمُ الأشياء فالدهن لكن الدُّسُومَة إذا تَمَحَّضَتْ{[51336]} لا تطيب للأكل ولا للشرب ، فإن الدّهن لا يأكل ولا يشرب في الغالب وأما اللبن ففيه الدسم الكائن في غيره وهو طيب للأكْل وبه تغذية الحيوان أولاً فذكره الله تعالى ؛ وأمّا ما يشرب لغير الطَّعْم فالماء والخَمْر ، فإن الخمر كريهة الطعم ، لحصول التواتر بذلك ، وإنما تشرب لأمر آخَر غير الطعام وأما الماء فلأن به بقاء الحيوان فذكره .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الخمر : { لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } ولم يقل في اللبن : لم يخبر طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفًّى للناظرين ؟
فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن اللذَّةَ تختلف باختلاف الأشخاص فربَّ طعام يلتذ به شخص ويَعَافُهُ الآخر فقال : لذة للشاربين بأَسْرِهِمْ ، ولأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا ، فقال لذة ، أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة طعم وأما الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس ، فإن الحُلْوَ والحَامِضَ وغيرهما يدركه كل أحد قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنَّ لهم طعماً واحداً وكذلك اللون فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجةً{[51337]} .
قوله : { كُلِّ الثمرات } فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا الجار صفة لمقدر ، وذلك المقدر مبتدأ وخبره الجار قبله وهو «لَهُمْ » و«فيها » متعلق بما تعلق به ، والتقدير : ولهم فيها زَوْجَانِ من كل الثمرات ، كأنه انتزعه من قوله تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] وقدر بعضهم صِنْفٌ . والأول أليق{[51338]} .
والثاني : أن «مِن » مزيدة في المبتدأ .
قوله : { وَمَغْفِرَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على ذلك المقدر لا بِقِيْدِ كونه في الجنة ، أي ولهم مغفرة ؛ لأَنَّ المغفرة تكون قبل دخول الجنة ؛ أو بقيد ذلك . ولا بدّ من حذف مضاف حينئذ أي وبِنَعِيمِ{[51339]} مَغْفِرَةٍ ؛ لأنه ناشئ عَنِ المغفرة وهو الجنة{[51340]} .
والثاني : أن يجعل خبرها مقدراً على ولَهُمْ مغفرةٌ . والجملة مستأنفة{[51341]} ، والفرق بين الوجهين أن الوجه الذي قبل هذا فيه الإخبار ب «لَهُمْ » الملفوظ به عن شيئين ، ذلك المحذوف ومغفرة . وفي الوجه الآخر الخبر جار آخر حذف للدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ .
قوله : { كَمَنْ هُوَ } قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً عن : { مَّثَلُ الجنة } ، بالتأويلين المذكورين عن ابن عطيةَ والزمخشريِّ وأما إذا لم تجعله خبراً عن «مَثَلٍ » ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : حَالُ هؤلاء المتقين كحال مَنْ هُو خَالدٌ{[51342]} .
وهذا تأويل صحيح . وذكر فيه أبو البقاء الأوجه الباقية فقال : وهو في موضع رفع أي حَالُهُمْ كحَالِ مَنْ هُوَ خَالدٌ فِي النَّار{[51343]} .
وقيل : هو اسْتِهْزَاءٌ بهم . وقيل : هو على معنى الاستفهام أي أكمنْ هُوَ خالد ، وقيل : في موضع نصب أي يُشْبِهُونَ ( حال ){[51344]} مَنْ هُو خَالدٌ فِي النَّار . انتهى{[51345]} .
ومعنى قوله : وقيل : هو استهزاء أي أن الإخبار بقولك : حالهم كَحَال مَنْ ( هُوَ خَالِدٌ ){[51346]} على سبيل الاستهزاء والتهكم . قال البغوي : معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ؟ .
قوله : { وَسُقُواْ } عطف على الصلة عطف فعلية على اسمية ، لكنه راعى في الأول لفظ «من » فأفرد وفي الثانية معناه فجمع{[51347]} . والأمعاء جمع مِعًى بالقصر وهو المُصْرَانُ{[51348]} التي في البطن . وقد وصف بالجمع في قوله :
4471 . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . ومَعِى جِيَاعُ{[51349]}
الماء الحميم هو الشديد الحَرِّ تسعر عليه النار منذ خلقت إذا أُدْنِيَ مِنْهم شَوَى وُجُوَهَهُمْ ، ووقعت فَروة رُؤُسِهم ، فإذا شَرِبُوا قطَّع أمعاءهم فخرجت من أدبارهم جميع ما في البطن من الحَوَايَا ، واحدها مِعًى .