تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَٰلِدٞ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمٗا فَقَطَّعَ أَمۡعَآءَهُمۡ} (15)

الآية 15 وقوله تعالى : { مثل الجنة التي وُعد المتقون } هذا يُخرّج على وجوه :

أحدها : أن قوله تعالى : { وُعد المتقون } على حقيقة المثل ؛ كأنه يقول : { مثل الجنة التي وُعد المتقون } من حياتكم هذه ، لو كانت جناتكم في الدنيا على المثل الذي وصف في الآية : أليس كانت نفس كل أحد ترغب فيها ، وتحرص على طلبها ، لتكون تلك الجنة له ، فما بالُكم لا ترغبون في تلك الجنة التي وُعد المتقون في الآخرة ، لا ترغبون فيها ، ولا تحرصون على طلبها ؟ والله أعلم .

ويخرّج على هذا التأويل قوله تعالى : { كمن هو خالد في النار } أي ليس من كان خالدا في جنة من جناتكم التي ما ذكر وصفها كمن هو خالد في نار من نيرانكم .

والثاني : يحتمل قول تعالى : { مثل الجنة التي وُعد المتّقون } ما ذكر ، فيخرّج على الصلة لما تقدّم من قوله تعالى : { إن الله يُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } [ محمد : 12 ] ثم وصف الجنة التي أخبر أنه يُدخلهم فيها ، فقال : { مثل الجنة التي وُعد المتقون } أي صفتها { فيها أنهار } من كذا وكذا . . . الآية .

وعلى هذا ما ذكر في آخره من قوله تعالى : { كمن هو خالد في النار } يحتمل أن يكون صلة قومه : { والنار مثوًى لهم } [ محمد : 12 ] .

ثم وصف تلك النار التي أخبر أنها مثوًى لهم ومأوًى لهم ، فقال : { وسُقُوا ماءا حميما } الآية .

والثالث : يذكر على أن من وعد له ما وعد للمتقين من الجنة وما فيها من النعم ليس كمن وعد له النار . ألا ترى أنه ، جل ، وعلا ، ذكر في آخر ما ذكر من وصف الجنة : { كمن هو خالد في النار وسُقُوا ماءا حميما فقطّع أمعاءهم } ؟ أي ليس هذا كهذا ، ولا سواء بينهما ، ولا مساواة .

وهو كقوله تعالى في ما تقدم من حيث ما قال : { أفمن كان على بيّنة من ربه كمن زُيّن له سوء عمله واتّبعوا أهواءهم } [ محمد : 14 ] أي ليس هذا كهذا .

فعلى هذا يحتمل ما ذكر من وصف الجنة ووصف النار ، أي ليس من وعد له الجنة التي وصفها ، ونعتها كمن وعد له النار التي وصْفُها ما ذكر ، والله أعلم .

ثم قوله تعالى : { فيها أنهار من ماء غير آسنٍ } الآية ؛ يخبر أنه يكون في الجنة من المياه والخمور والألبان وما ذكر ليس كالتي في الدنيا ، لأن المياه في الدنيا تتغير بأحد وجهين : إما لنجاسة وآفة تصيبهما . أو لطول الزمان والمُكث ، فيخبر أن ليس في الجنة شيء يُغيّر مياهها . وكذلك اللبن في الدنيا يتغيّر ، ويفسُد عن قريب إذا تُرك لما ذُكر ، فيُخبر أن ألبان الجنة لا تفسُد للترك ، ولا يصيبها شيء ، فيُفسِدها ، ويُخرجها عن طعم اللبن ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وأنهار من خمر لذّة للشاربين } يُخبِر أن الخمور في الجنة مما يتلذّذ بها أهلها عند الشرب ليست كخمور الدنيا يتكرّهها{[19425]} أهلها عند شربها ، ويعبِسون وجوههم عند التناول منها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وأنهار من عسلٍ مُصفّى } أي وأنهار من عسل خُلِق ، وأُنشِئ مُصفّى ، لا كُدورة فيه ، لا أنه كان كدِرًا ، فصُفّيَ ، أو كان خُلق بعضه كدِرا ، وبعضه مُصفّى ، ولكن خُلق كله مُصفّى في الابتداء ، وهو كقوله تعالى : { رفع السماوات } [ الرعد : 2 ] أي خلقها في الابتداء مروعة لا أنها كانت موضوعة ، ثم رفعها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولهم فيها من كل الثمرات } التي عرفوها في الدنيا ، وأرادوها ، أو يقول : { ولهم فيها من كل الثمرات } التي يريدون فيها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسُقوا ماءا حميما فقطّع أمعاءهم } أي ليس من وعد له ما ذكر من الجنة ، وهو خالد فيها مُتنعّم بما ذكر من ألوان الثمار والنّعم ما ذكر من المياه والخمور والألبان { كمن هو خالد في النار } وما ذكر والله أعلم .


[19425]:في الأصل وم: يتكره.