فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَٰلِدٞ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمٗا فَقَطَّعَ أَمۡعَآءَهُمۡ} (15)

ثم لمّا بيّن سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء ، والضلال بين الفرق في مرجعهما ومآلهما فقال : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } والجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة وبيان ما فيها ؛ ومعنى { مَّثَلُ الجنة } : وصفها العجيب الشأن ، وهو مبتدأ وخبره محذوف . قال النضر بن شميل : تقديره ما يسمعون ، وقدّره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، قال : والمثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة ، وجملة { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ } إلخ مفسرة للمثل . وقيل : إن { مثل } زائدة ، وقيل : إن { مثل الجنة } مبتدأ ، والخبر { فيها أنهار } ، وقيل : خبره { كمن هو خالد } ، والآسن : المتغير ، يقال : أسن الماء يأسن أسوناً : إذا تغيرت رائحته ، ومثله الآجن ، ومنه قول زهير :

قد أترك القرن مصفراً أنامله *** يميد في الرمح ميد المالح الأسن

قرأ الجمهور { آسن } بالمدّ . وقرأ حميد وابن كثير بالقصر وهما لغتان كحاذر وحذر . وقال الأخفش : إن الممدود يراد به الاستقبال ، والمقصود يراد به الحال ، { وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أي لم يحمض ، كما تغير ألبان الدنيا ، لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر { وأنهار مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين } أي لذيذة لهم طيبة الشرب لا يكرهها الشاربون ، يقال : شراب لذّ ولذيذ وفيه لذة بمعنى ، ومثل هذه الآية قوله : { بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين } [ الصافات : 46 ] قرأ الجمهور { لَذَّةٍ } بالجرّ صفة ل { خمر } ، وقرئ بالنصب على أنه مصدر ، أو مفعول له . وقرئ بالرفع صفة ل { أنهار } { وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي مصفى مما يخالطه من الشمع والقذى والعكر والكدر { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات } أي لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل الثمرات : أي من كل صنف من أصنافها ، و «من » زائدة للتوكيد { وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ } لذنوبهم ، وتنكير مغفرة للتعظيم : أي ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم { كَمَنْ هُوَ خالد فِي النار } هو خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : أم من هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالداً فيها كمن هو خالد في النار أو خبر لقوله : { مثل الجنة } كما تقدّم . ورجح الأوّل الفراء ، فقال : أراد أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ؟ وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه ، وأعطي هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله ، وهو خالد في النار ، فقوله : " كَمَنْ " بدل من قوله : { أفمن زيّن له سوء عمله } وقال ابن كيسان : ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم ، وليس مثل أهل الجنة في النعيم ، كمثل أهل النار في العذاب الأليم ، وقوله : { وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً } عطف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية لكنه راعى في الأولى لفظ " من " ، وفي الثانية معناها ، والحميم الماء الحارّ الشديد الغليان ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم ، وهو معنى قوله : { فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } لفرط حرارته . والأمعاء جمع معي ، وهي ما في البطون من الحوايا .

/خ19