قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } ، قال أهل التفسير : كان بنو عامر يطوفون بالبيت عراة ، فأنزل الله عز وجل : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } ، يعني الثياب ، قال مجاهد : ما يواري عورتك ولو عباءة ، قال الكلبي : الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد لطواف و صلاة .
قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } ، قال الكلبي : كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسماً ، يعظمون بذلك حجهم . فقال المسلمون : نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله ، فأنزل الله عز وجل : ( وكلوا ) يعني اللحم والدسم واشربوا .
قوله تعالى : { ولا تسرفوا } ، بتحريم ما أحل الله لكم من اللحم والدسم .
قوله تعالى : { إنه لا يحب المسرفين } ، الذين يفعلون ذلك ، قال ابن عباس : كل ما شئت ، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان ، سرف ومخيلة . قال علي بن الحسين بن واقد : قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال : { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } .
ثم يتكرر النداء إلى ( بني آدم ) في هذه الوقفة كذلك ؛ قبل أن يتابع السياق الرحلة المديدة ؛ في الطريق المرسوم :
( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين . قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ قل : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة . كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون . قل : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ؛ والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) . .
إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة ، في مواجهة ما عليه المشركون العرب في الجاهلية ؛ وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة ، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى . .
وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه ولا شرع ؛ وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم ، ويقول على الله ما لا يعلم ، ويزعم من ذلك ما يزعم .
إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم . وهو الرياش . عند كل عبادة ؛ ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا ، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله ، بل أنعم به على العباد . فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم ، لا بخلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه :
( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) . .
ويناديهم كذلك ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف :
( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا . إنه لا يحب المسرفين ) .
وقد ورد أنه كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب . وكان هذا من مبتدعات قريش كذلك !
في صحيح مسلم عن هشام عن عروة عن أبيه قال : " كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس ، والحمس قريش وما ولدت . كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً ، فيعطي الرجال الرجال ، والنساء النساء . وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة ؛ وكان الناس يبلغون عرفات . ويقولون : نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوباً ، ولا يسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين : إما أن يطوف بالبيت عرياناً وإما أن يطوف في ثيابه ، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه فلم يمسه أحد . وكان ذلك الثوب يسمى اللقى " . .
وجاء في تفسير القرطبي المسمى " أحكام القرآن " : " وقيل إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسماً في أيام حجهم ، ويكتفون باليسير من الطعام ، ويطوفون عراة . فقيل لهم : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ، ولا تسرفوا ) أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم " . . والإسراف يكون بتجاوز الحد ، كما قد يكون بتحريم الحلال . كلاهما تجاوز للحد . هذا باعتبار ، وذاك باعتبار .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَابَنِيَ آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوَاْ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرّون عند طوافهم ببيته الحرام ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب ، والمحرّمين منهم أكل ما لم يحرّمه الله عليهم من حلال رزقه تبرّرا عند نفسه لربه : يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ من الكساء واللباس ، عِنْدَ كُلْ مَسْجِد وكُلُوا من طيبات ما رزقتكم ، وحللته لكم ، وَاشْرَبُوا من حلال الأشربة ، ولا تحرّموا إلا ما حرّمت عليكم في كتابي أو على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا شعبة ، عن سلمة ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنّ النساء كنّ يطفن بالبيت عراة وقال في موضع آخر : بغير ثياب إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة فيما وصف إن شاء الله ، وتقول :
اليَوْمَ يَبْدُوا بَعْضُهُ أوْ كُلّهُ ***فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلّهُ
قال : فنزلت هذه الاَية : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِد .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يطوفون عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانت المرأة تقول :
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلهُ ***فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أحِلّهُ
فقال الله : خُذُوا زِينَتَكُمْ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن ابن عباس : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلْ مَسْجِدٍ قال : الثياب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عندر ووهب بن جرير ، عن شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، قال : سمعت مسلما البطين يحدّث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة قال غُنْدَرٌ : وهي عريانة ، قال وهب : كانت المرأة تطوف بالبيت وقد أخرجت صدرها وما هنالك .
قال غندر : وتقول : من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول :
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلّهُ ***وَما بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلّهُ
فأنزل الله يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِيَنَتكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِد قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرّوا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مسْجِدٍ . . . الاَية ، قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة . والزينة : اللباس ، وهو ما يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع ، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كلّ مسجد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي وابن فضيل ، عن عبد الملك ، عن عطاء : خُذُوا زِينَتَكُمْ قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فأمروا أن يلبسوا ثيابهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، بنحوه .
حدثني عمرو ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ : البسوا ثيابكم .
حدثنا يعقوب قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في قوله : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : كان ناس يطوفون بالبيت عراة فنهوا عن ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فأمروا أن يلبسوا الثياب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : ما وارى العورة ولو عباءة .
حدثنا عمرو قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، وأبو عاصم ، وعبد الله بن داود ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، في قوله : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : ما يواري عورتك ولو عباءة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ في قريش ، لتركهم الثياب في الطواف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : الثياب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن إبراهيم ، عن نافع ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : الشملة من الزينة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس : خُذوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : الثياب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد وأبو أسامة ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فطافت امرأة بالبيت وهي عريانة ، فقالت :
اليَوْمَ يَبْدو بَعْضُهُ أوْ كُلّهُ ***فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلّهُ
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدِ قال : كان حيّ من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجّا أو معتمرا يقول : لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد دنّست فيه ، فيقول : من يعيرني مئزرا ؟ فإن قدر على ذلك ، وإلا طاف عريانا ، فأنزل الله فيه ما تسمعون : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال الله : يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ يقول : ما يواري العورة عند كلّ مسجد .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ : أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة ، إلا الحمس قريش وأحلافهم فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثياب أحمس ، فإنه لا يحلّ له أن يلبس ثيابه ، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانا ، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه يحرمها فيجعلها حراما عليه ، فلذلك قال : خُذُوا زِينَتَكُمْ عَنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ .
وبه عن معمر قال : قال ابن طاوس ، عن أبيه : الشملة من الزينة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ . . . الاَية ، كان ناس من أهل اليمن والأعراب إذا حجوا البيت يطوفون به عراة ليلاً ، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم وَلا يتعرّوا في المسجد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : خُذُوا زِينَتَكُمْ قال : زينتهم ثيابهم التي كانوا يطرحونها عند البيت ويتعرّون .
وحدثني به مرة أخرى بإسناده ، عن ابن زيد في قوله : قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ التي أخُرَجَ لِعِبادِهِ ، وَالطّيّباتِ مِنَ الرّزْقِ قال : كانوا إذا جاءوا البيت فطافوا به حرمت عليهم ثيابهم التي طافوا فيها ، فإن وجدوا من يعيرهم ثيابا ، وإلا طافوا بالبيت عراة ، فقال : مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ قال : ثياب الله التي أخرج لعباده . . . الاَية .
وكالذي قلنا أيضا ، قالوا في تأويل قوله : وَكُلُوا وَاشْرِبُوا وَلا تُسْرِفُوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : وكُلُوا وَاشْرِبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ في الطعام والشراب .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرّمون عليهم الوَدَك ما أقاموا بالموسم ، فقال الله لهم : كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ يقول : لا تسرفوا في التحريم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا قال : أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تُسْرِفُوا لا تأكلوا حراما ذلك الإسراف .
وقوله إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ يقول : إن الله لا يحبّ المتعدّين حدّه في حلال أو حرام ، الغالين فيما أحلّ الله أو حرّم بإحلال الحرام ، وبتحريم الحلال ، ولكنه يحب أن يحلل ما أحلّ ويحرّم ما حرّم ، وذلك العدل الذي أمر به .
إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام ، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] .
وهذه الجملة تتنزّل ، من التي بَعدها ، وهي قوله : { قل من حرم زينة الله } [ الأعراف : 32 ] منزلة النّتيجة من الجدل ، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى ، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها .
فالمقصد من قوله : { خذوا زينتكم } إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة ، وعند مساجد معيّنة ، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافاً تجعله على فرجها وتقول :
اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه *** وما بَدا منه فلا أُحِلُّه
وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس ، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثياباً فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ ، وعنه : أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة . وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوباً ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُرياناً ، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى : اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم :
كفى حزناً كَري عليه كأنّه *** لقى بين أيدي الطائفين حَرامُ
وفي « الكشاف » ، عن طاووس : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا : لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها ، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه ، عام حجّته سنة تسع ، أن ينادي في الموسم : " أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان " .
وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم ، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتاً ، ولا يأكلون دَسماً ، ونسب في « الكشاف » ذلك إلى بني عامر ، وكان الحُمْس يقولون : لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا ، وفي « تفسير الطبري » عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمْنها . وفيه عن قتادة : أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .
فالأمر في قوله : { خذوا زينتكم } للوجوب ، وفي قوله : { وكلوا واشربوا } للإباحه لبني آدم الماضين والحاضرين .
والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم ، وامتن به عليهم ، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً . وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر . فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] بعد قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجباً . فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش ، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ ، وهو ما يستْر العورة ، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالاً لتحريمه ، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالاً للتّحريم ، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم .
وقوله : { عند كل مسجد } تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى ، وقد تقدّم نظيره في قوله : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 29 ] . وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفاً .
والإسراف تقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) ، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي : ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة .
وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله : { قل من حرم زينة الله } إلى قوله { والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف ، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم ، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً : { قل أمر ربي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] فإن ترك السّرف من معنى العدل .
وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } تذييل ، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام .