البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (31)

{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل } كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم دسماً ولا ينالون من الطعام إلاّ قوتاً تعظيماً لحجهم فنزلت ، وقيل : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ، وقيل : تفاؤلاً ليتعرُّوا من الذنوب كما تعروا من الثياب .

والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يُتجمل به من ثياب وغيرها كقوله { وازّينت } أي بالنبات والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة قاله مجاهد والسدّي والزجاج ، وقال طاووس الشملة من الزّينة ، وقال مجاهد : ما وارى عورتك ولو عباءة فهو زينة .

وقيل ما يستر العورة في الطّواف ، وفي صحيح مسلم عن عروة أنّ العرب كانت تطوف عراة إلا الخمس وهم قريش إلاّ أن تعطيهم الخمس ثياباً فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء وفي غير مسلم : من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوباً طاف عرياناً أو في ثيابه وألقاها بعد فلا يمسّها أحد ويسمّى اللقاء .

وقال بعضهم :

كفى حزناً كرى عليه كأنه *** لقي بين أيدي الطائفين حريم

وكانت المرأة تنشد وهي تطوف عريانة :

اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحلّه

فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا } أذّن مؤذّن الرسول ألاّ لا يحجّ البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وكان النداء بمكة سنة تسع ، وقال عطاء وأبو روق : تسريح اللحى وتنويرها بالمشط والترجيل ، وقيل : التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد ذكره الماوردي ، وقيل : رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والرّكوع والرفع منه ، وقيل إقامة الصلاة في الجماعة بالمساجد وكان ذلك زينة لهم لما في الصلاة من حسن الهيئة ومشابهة صفوف الملائكة ولما فيها من إظهار الإلفة وإقامة شعائر الدين ، وقيل : ليس النّعال في الصلاة وفيه حديث عن أبي هريرة ، وقال ابن عطيّة : وما أحسبه يصحّ ، وقال أيضاً : الزّينة هنا الثّياب الساترة ويدخل فيها ما كان من الطيّب للجمعة والسّواك وبدل الثياب وكل ما أوجد استحسانه في الشّريعة ولم يقصد به الخيلاء { وعند كل مسجد } يريد عند كل موضع سجود ، فهو إشارة إلى الصّلوات وستر العورة فيها هو مهم الأمر ويدخل في الصّلاة مواطن الخير كلها ومع ستر العورة ما ذكرنا من الطيب للجمعة انتهى .

وقال الزمخشري : { خذوا زينتكم } أي ريشكم ولباس زينتكم { عند كل مسجد } كلما صلّيتم وكانوا يطوفون عراة انتهى ، والذي يظهر أنّ الزّينة هو ما يتجمل به ويتزين عند الصلاة ولا يدخل فيه ما يستر العورة لأنّ ذلك مأمور به مطلقاً ولا يختصّ بأن يكون ذلك عند كلّ مسجد ، ولفظة { كلّ مسجد } تأتي أن يكون أيضاً ما يستر العورة في الطّواف لعمومه والطّواف إنما هو الخاص وهو المسجد الحرام وليس بظاهر حمل العموم على كل بقعة منه وأيضاً فيا بني آدم عام وتقييد الأمر بما يستر العورة في الطّواف مفض إلى تخصيصه بمن يطوف بالبيت .

وقال أبو بكر الرازي في الآية دليل على فرض ستر العورة في الصلاة وهو قول أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والشافعي لقوله : { عند كل مسجد } علق الأمر بد فدل على أنه الستر للصلاة ، وقال : مالك والليث : كشف العورة حرام ويوجبان الإعادة في الوقت استحباباً إن صلّى مكشوفها ، وقال الأبهري : هي فرض في الجملة وعلى الإنسان أن يسترها في الصلاة وغيرها وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم للمسور ابن مخرمة :

« ارجع إلى قومك ولا تمشوا عراة » ، أخرجه مسلم { وكلوا واشربوا } ، قال الكلبي : معناه كلوا من اللحم والدّسم واشربوا من الألبان وكانوا يحرمون جميع ذلك في الإحرام ، وقال السدّي : كلوا من البحيرة وأخواتها والظاهر أنه أمر بإباحة الأكل والشرب من كل ما يمكن أن يؤكل أو يشرب مما يحظر أكله وشربه في الشريعة وإن كان النزول على سبب خاص كما ذكروا من امتناع المشركين من أكل اللحم والدّسم أيام إحرامهم أو بني عامر دون سائر العرب من ذلك وقول المسلمين بذلك والنهي عن الإسراف يدلّ على التحريم لقوله { إنه لا يحب المسرفين } .

قال ابن عباس : الإسراف الخروج عن حد الاستواء ، وقال أيضاً { لا تسرفوا } في تحريم ما أحل لكم ، وقال أيضاً : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ، وقال ابن زيد : الإسراف أكل الحرام ، وقال الزجاج الإسراف الأكل من الحلال فوق الحاجة ، وقال مقاتل : الإسراف الإشراك ، وقيل : الإسراف مخالفة أمر الله في طوافهم عراة يصفقون ويصفرون ، وقال ابن عباس أيضاً : ليس في الحلال سرف إنما السّرف في ارتكاب المعاصي ، قال ابن عطية : يريد في الحلال القصد واللفظة تقتضي النهي عن السّرف مطلقاً فيمن تلبس بفعل حرام فتأوّل تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه ، مثال ذلك أن يفرط في شراء ثياب أو نحوها ويستنفد في ذلك حلّ ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك أو نحوه فالله عزّ وجل لا يحبّ شيئاً من هذا وقد نهت الشريعة عنه انتهى ، وحكى المفسّرون هنا أن نصرانياً طبيباً للرشيد أنكر أن يكون في القرآن أو في حديث الرسول شيء من الطبّ فأجيب بقوله { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } بقوله « المعدة بيت الداء والحميّة رأس كل دواء » و « أعطِ كلّ بدن ما عودته » فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً .