مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (31)

قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون }

اعلم أن الله تعالى لما أمر بالقسط في الآية الأولى ، وكان من جملة القسط أمر اللباس وأمر المأكول والمشروب ، لا جرم أتبعه بذكرهما ، وأيضا لما أمر بإقامة الصلاة في قوله : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وكان ستر العورة شرطا لصحة الصلاة لا جرم أتبعه بذكر اللباس ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن عباس : إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى ، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة . وقالوا : لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب ، ومنهم من يقول : نفعل ذلك تفاؤلا حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب ، وكانت المرأة منهم تتخذ سترا تعلقه على حقويها ، لتستتر به عن الحمس ، وهم قريش ، فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك ، وكانوا يصلون في ثيابهم ، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، فقال المسلمون : يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، أي : «البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم واشربوا ولا تسرفوا » .

المسألة الثانية : المراد من الزينة لبس الثياب ، والدليل عليه قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } يعني الثياب ، وأيضا فالزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ، ولذلك صار التزيين بأجود الثياب في الجمع والأعياد سنة ، وأيضا أنه تعالى قال في الآية المتقدمة : { قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم وريشا } فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة ، ثم أنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية ، فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة ، وأيضا فقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة ههنا لبس الثوب الذي يستر العورة ، وأيضا فقوله : { خذوا زينتكم } أمر والأمر للوجوب ، فثبت أن أخذ الزينة واجب ، وكل ما سوى اللبس فغير واجب ، فوجب حمل الزينة على اللبس عملا بالنص بقدر الإمكان .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : { خذوا زينتكم } أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فهذا يدل على وجوب ستر العورة عنه إقامة كل صلاة ، وههنا سؤالان :

السؤال الأول : إنه تعالى عطف عليه قوله : { وكلوا واشربوا } ولا شك أن ذلك أمر إباحة فوجب أن يكون قوله : { خذوا زينتكم } أمر إباحة أيضا .

وجوابه : أنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه ، وأيضا فالأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضا في الحكم .

السؤال الثاني : أن هذه الآية نزلت في المنع من الطواف حال العرى .

والجواب : أنا بينا في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } يقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة لأن اللبس التام هو الزينة . ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء ، إجماعا ، فبقي الباقي داخلا تحت اللفظ ، وإذا ثبت أن ستر العورة واجب في الصلاة ، وجب أن تفسد الصلاة عند تركه ، لأن تركه يوجب ترك المأمور به ، وترك المأمور به معصية ، والمعصية توجب العقاب على ما شرحنا هذه الطريقة في الأصول .

المسألة الثالثة : تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مسألة إزالة النجاسة بماء الورد . فقالوا : أمرنا بالصلاة في قوله : { أقيموا الصلاة } والصلاة عبارة عن الدعاء ، وقد أتى بها ، والإتيان بالمأمور به يوجب الخروج عن العهدة ، فمقتضى هذا الدليل أن لا تتوقف صحة الصلاة على ستر العورة ، إلا أنا أوجبنا هذا المعنى عملا بقوله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } ولبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ الزينة ، فوجب أن يكون كافيا في صحة الصلاة .

وجوابنا : أن الألف واللام في قوله : { أقيموا الصلاة } ينصرفان إلى المعهود السابق ، وذلك هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم ، لم قلتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى في الثوب المغسول بماء الورد ؟ والله أعلم .

أما قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } فاعلم أنا ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا القليل ، وكانوا لا يأكلون الدسم ، يعظمون بذلك حجهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان فساد تلك الطريقة .

والقول الثاني : أنهم كانوا يقولون أن الله تعالى حرم عليهم شيئا مما في بطون الأنعام فحرم عليهم البحيرة والسائبة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لفساد قولهم في هذا الباب .

واعلم أن قوله : { وكلوا واشربوا } مطلق يتناول الأوقات والأحوال ، ويتناول جميع المطعومات والمشروبات ، فوجب أن يكون الأصل فيها هو الحل في كل الأوقات ، وفي كل المطعومات والمشروبات إلا ما خصه الدليل المنفصل ، والعقل أيضا مؤكد له ، لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة .

وأما قوله تعالى : { ولا تسرفوا } ففيه قولان :

القول الأول : أن يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ، ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقدارا كثيرا يضره ولا يحتاج إليه .

والقول الثاني : وهو قول أبي بكر الأصم : أن المراد من الإسراف ، قولهم بتحريم البحيرة والسائبة ، فإنهم أخرجوها عن ملكهم ، وتركوا الانتفاع بها ، وأيضا أنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج أيضا أشياء أحلها الله تعالى لهم ، وذلك إسراف .

واعلم أن حمل لفظ الإسراف على الاستكثار ، مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع من لا يجوز وينبغي .

ثم قال تعالى : { إنه لا يحب المسرفين } وهذا نهاية التهديد ، لأن كل ما لا يحبه الله تعالى بقي محروما عن الثواب ، لأن معنى محبة الله تعالى العبد إيصاله الثواب إليه ، فعدم هذه المحبة عبارة عن عدم حصول الثواب ، ومتى لم يحصل الثواب ، فقد حصل العقاب ، لانعقاد الإجماع على أنه ليس في الوجود مكلف ، لا يثاب ولا يعاقب .