اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (31)

لمَّا أمرنا بإقامة الصَّلاةِ بقوله : { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .

وكان ستر العورة شَرْطا لصحَّةِ الصَّلاةِ أتبعه بذكر اللِّباس .

قال ابْنُ عبَّاس : إنَّ أهل الجاهلَّيةِ من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عُرَاة ، وكانوا إذا وصلوا إلى مَسْجِدِ " منى " طرحوا ثيابهم ، وأتوا المسجد عُرَاةً ، وقالوا : لا نَطوفُ بثيابٍ{[16049]} أصبنا فيها الذَّنوب ، ومنهم من يقولُ : نفعلُ ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى من الذُنُوب كما تعرّينا عن الثياب ، وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلٌّه على حقويها لتستتر به عن الحُمْس وهم قريشٌ ، فإنَّهُم كانُوا لا يَفْعَلُون ذلك ، وكانوا يطوفون في ثيابهم ، ولا يأكلون من الطعام إلاَّ قوتاً

قال الكَلْبِيُّ : كانت بَنُو عامر لا يأكُلُونَ في أيَّام حجِّهم من الطعام إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسماً ، يعظِّمُون بذلك حجهم فقال المسلمون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحقُ أن نَفْعَلَ ذلك فنزلت هذه الآية{[16050]} .

و " كُلُوا " يعني : اللحم والدسم .

{ واشربوا وَلاَ تسرفوا } بتحريم ما أحلَّ الله لكم من اللحم والدسم .

{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } الذين يفعلون ذلك .

قال ابن عباس : " كُلْ ما شِئْتَ ، والبَسْ ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة{[16051]} " .

قال عَلِيُّ بْنُ الحُسينِ بنِ واقدٍ : وقد جمع اللَّهُ الطبَّ كلَّه في نصف آية فقال : { كُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } .

فصل في معنى " الزينة "

المراد من الزِّينة لبس الثيابِ لقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [ النور : 31 ] . يعني : الثّياب .

والزينة لا تحصل إلا بالسّتر التام للعورات ، ولذلك صار التزين بأخذ الثياب في الجمع والأعياد سُنَّة ، فوجب حمل الزينة على ستر العورة .

وقد أجمع المُفسرون على أن المراد بالزِّينةِ هنا لبس الثياب التي تستر العورة ، وقد أمر بها بقوله : خُذُو زينتَكُم " ، والأمرُ للوجوبِ ، فَثَبَتَ أنَّ أخذ الزِّينةِ واجب ، وكل ما سوى اللبس فهو{[16052]} واجب ، فوجب حمل الزِّينةِ على اللبس عملاً بالنَّصِّ بقدر الإمكان ، فدلَّ على وُجُوبِ ستر العورة عند إقامة الصَّلاة .

فإن قيل : إنَّهُ عطف عليه قوله : " كُلُوا واشْرَبُوا " ، وذلك أمر إباحة ، فوجب أن يكون قوله : " خُذُوا زِينَتَكُم " أمر إباحة أيضاً والجواب لا يلزم من ترك الظَّاهر المعطوف تركه في المعطوف عليه وأيضاً فدلالة الاقتران{[16053]} ضعيفة ، وأيضاً الأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضاً في الجملة .

فإن قيل هذه الآية وردت في المنع من الطواف حال العري .

فالجواب : أن العِبْرَة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّبب .

إذا ثبت ذلك فقوله " خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ " يقتضي وجوب اللِّبس التَّام عند كل صلاةٍ ؛ لأن اللبس التام هو الزينة .

ترك العمل به في القدر الذي لا يجبُ ستره من الأعْضَاءِ إجماعاً ، فبقي الباقي داخلاً تحت اللفظ .

فصل في الأصل في الأكل الحل

قوله : { وكُلُواْ واشربوا } مطلق ، يتناول جميع المطعومات والمشروبات ، فوجب أن يكون الأصل فيها الحلُّ في كل الأوقات إلا ما خصَّه الدَّليل المنفصلُ ، والعقل يؤكده ؛ لأنَّ الأصْلَ في المنافع الحلُّ والإبَاحَةُ .

فصل في وجوب ستر العورة

قال القُرْطُبِيُّ{[16054]} : دلَّت هذه الآيةُ على وُجُوبِ ستْرِ العوْرَةِ ، وعلى إباحةِ الأكْل والشرب ما لم يكن سرفاً ، أمَّا ما تدعو الحاجة إليه وهو ما يسدُّ الجوعة ويسكن الظمأ مندوب إليه عقلاً وشرعاً ؛ لما فيه من حفظ النَّفْس وحراسة الحواس ، ولذلك ورد الشَّرْع بالنَّهي عن الوصالِ ؛ لأنَّهُ يضعف الجسد ، ويضعف عن العبادة .

قوله : " ولا تُسْرِفوا " .

قيل : المرادُ أن يأَكل ويشرب بحيث لا يتعدَّى إلى الحرامِ ، ولا يكثر الإنفاق المستَقْبَح ، ولا يتناول مقداراً كثيراً يضرُّ به .

وقال أبُو بَكْرِ الأصَمُّ{[16055]} : المراد بالإسراف قولهم : تحريم البحيرة والسّائبة ، فإنَّهُمْ أخرجوها عن ملكهم ، وتَرَكُوا الانتفاع بها ، وحرَّموا على أنفسهم في الحجِّ أشياء أحَلَّها الله لهم ، وذلك إسراف .

واعلم أنَّ حمل لفظ الإسْرَاف على الاستكثارِ [ و ] مما لا ينبغي أولى من حمله على المَنءعِ مما يَجُوزُ ويَنْبَغِي .

وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } نهاية في التهديد ؛ لأن كل من لا يحبُّه الله يبقى محروماً عن الثَّواب ؛ لأن محبَّة الله للعبد إيصال الثَّواب إليه ، فعدمُ هذه المحبَّة عبارةٌ عن عدم حصول الثَّوابِ ، ومتى لم يحصل الثَّوابُ فقد حصل العِقَابُ لانعقاد الإجماع على أنَّهُ ليس في الوُجُودِ مكلّلإ لا يثابُ ولا يُعاقب .


[16049]:في أ: من ثياب.
[16050]:ذكره الرازي في تفسيره 14/50 عن ابن عباس.
[16051]:ذكره السيوطي بهذا اللفظ في الدر المنثور 3/149 وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وأخرجه الطبري 5/472 عن ابن عباس بمعناه.
[16052]:في أ: فغير.
[16053]:قال بها المزني وابن أبي هريرة والصيرفي منا، وأبو يوسف من الحنفية، ونقله الباجي عن نص المالكية. قال: ورأيت ابن نصر يستعلها كثيرا. وقيل: إن مالكا احتج في سقوط الزكاة عن الخيل بقوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل 8] فقرن في الذكر بين الخيل والبغال والحمير، والبغال والحمير لا زكاة فيها إجماعا، فكذلك الخيل. وأنكرها الجمهور فيقولون: القران في النظم لا يوجب القران في الحكم، وصورته أن يدخل حرف الواو بين جملتين تامتين، كل منهما مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، بلفظ يقتضي الوجوب في الجميع أو العموم في الجميع، ولا مشاركة بينهما في العلة، ولم يدل دليل على التسوية بينهما، كقوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 14] وقوله: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم} [النور: 33] وكاستدلال المخالف في أن استعمال الماء ينجسه بقوله عليه السلام: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة) لكونه مقرونا بالنهي عن البول فيه، والبول فيه يفسده، فكذلك الاغتسال فيه. وهو غير مرضي عند المحققين، لاحتمال أن يكون النهي عن الاغتسال فيه لمعنى غير المعنى الذي منع من البول فيه لأجله، ولعل المعنى في النهي عن الاغتسال لا ترتفع جنابته، كما هو مذهب الحصري من أصحابنا. ينظر البحر المحيط 6/99.
[16054]:ينظر: تفسير القرطبي 7/123.
[16055]:ينظر: تفسير الرازي 14/52.