قال المهايمي : ومما حسبوا فيه أنهم مهتدون بمتابعة الشيطان ، تركهم التزين والتلذذ مع العبادة ، فطافوا عراة . وتركهم اللحم والدسم مع الإحرام ، فقال عز وجل : { يا بني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( 31 ) } .
{ يا بني ءادم خذوا زينتكم } أي : من اللباس { عند كل مسجد } أي : بيت بني للعبادة ، على أنه اسم مكان ، أو مصدر بمعنى السجود ، مرادا به الصلاة والعبادة . فإن العبادة أولى أوقات التزين { وكلوا واشربوا } أيام الحج تقويا على العبادة { ولا تسرفوا } أي : إسرافا يوجب الانهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة ، أو لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم { إنه لا يحب المسرفين } المعتدين .
الأول : كنا أسلفنا في مقدمة هذا التفسير ، أن من فوائد سبب النزول الوقوف على المعنى ، وإزالة الإشكال . وهذه الآية إنما أجملنا تفسيرها بما ذكرنا ، لأنها نزلت في ذلك . / فقد روى مسلم{[3892]} عن ابن عباس قال : " كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة ، فتقول : من يعيرني تطوافا{[3893]} ؟ تجعله على فرجها وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية { خذوا زينتكم . . . } الآية .
وعند ابن جرير{[3894]} عن ابن عباس قال : " كانوا يطوفون عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانت المرأة تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله
فنزلت { خذوا زينتكم } " . قال في ( اللباب ) : وفي رواية أخرى عنه{[3895]} : فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا " . وروى العوفي{[3896]} عن ابن عباس أيضا في الآية قال : " كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة اللباس ، وهو ما يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع ، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد " . وأخرج أبو الشيخ عن طاووس قال : أمروا بلبس الثياب ، وأخرج من وجه آخر عنه قال : الشملةن الزينة . وقال مجاهد : " كان حي من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجا أو معتمرا يقول : لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه ، فيقول : من يعيرني مئزرا ؟ فإن قدر عليه وإلا طاف عرايانا . فأنزل الله تعالى في ما تسمعون : { خذوا زينتكم . . . } الآية " . وقال الزهري : إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس- وهم قريش وأحلافهم- فمن جاء من غير الحمس ، وضع ثيابه ، وطاف في ثوب أحمسي ، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه . فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ، ويطوف عريانا . وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها ، إذا قضى طوافه وحرمها ، أي جعلها حراما عليه ؛ فلذلك قال تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } . والمراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة . قال مجاهد : " ما يواري عوراتهم ، ولو عباءة " - انتهى- . قال ابن كثير : هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ، والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها : " أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة " - انتهى- فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول ، دون لباس التجمل المتبادر منه ، لأن المستفاد من { خذوا } هو وجوب الأخذ ، ولباس التجمل مسنون- قاله الشهاب- وأقول دلّت الآية بما أفاده سبب نزولها على أن الزينة لا تختص ، لغة ، بالجيد من اللباس كما توهم . وبين ذلك العوفي عن ابن عباس فيما نقلناه .
وفي ( التهذيب ) : الزينة اسم جامع لكل شيء يتزين به . ومثله في ( الصحاح ) و ( القاموس ) وعبارته : الزينة ما يتزين به .
وقال الحراني : الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسه أو حلية أو هيئة .
وقال الراغب : الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله ، ولا في الدنيا ولا في الآخرة-انتهى- .
وقد نقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد ب { الزينة } لبس الثياب التي تستر العورة . / قال : والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات . قال : وأيضا إنه تعالى قال في الآية المتقدمة { قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا } فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة . ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية . فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية . وأيضا فقوله : { خذوا زينتكم } أمر ، والأمر للوجوب . فثبت أن أخذ الزينة واجب ، وكل ما سوى اللبس فغير واجب ، فوجب حمل الزينة على اللبس عملا بالنص بقدر الإمكان . ولا يقال : إن قوله : { وكلوا واشربوا } أمر إباحة ، فيكون المعطوف عليه كذلك ، لأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف ، تركه في المعطوف عليه .
هذا ، وقد روى الحافظ بن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعا : " أنها نزلت في الصلاة في النعال " . وكذا أخرجه أبو الشيخ عنه ، وعن أبي هريرة : مثله . قال ابن كثير : وفي صحته نظر- والله أعلم- قلت : لا نظر ، لأن ذلك مما تشمله الزينة ، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم : ( نزلت في كذا ) لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به ، بل مخصوصة بنوعه ، فتعم ما أشبهه ، فتذكر . والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جدا ، منها : عن أبي مسلمة{[3897]} سعيد بن يزيد ، قال : " سألت أنسا : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ؟ قال : " نعم " . ( متفق عليه ) . قال العراقي في ( شرح الترمذي ) : وممن كان يفعل ذلك- يعني لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي ، بن أبي رباح ومجاهد وطاووس وشريح القاضي وأبو مجلز وأبو عمر الشيباني والأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي وعلي بن الحسن وابنه أبو جعفر . انتهى . / وقد أخرج أبو داود{[3898]} من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما " .
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيا ومنتعلا " . أخرجه أبو داود{[3899]} وابن ماجة{[3900]} .
الثاني : دلت الآية على وجوب الستر عند الطواف ، لأنه سبب النزول ، قالوا : واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد .
الثالث : حاول بعضهم استنباط التجمل عند الصلاة منها حيث قال : لما دلت على وجوب أخذ الزينة بستر العورة في الصلاة ، فهم منها ، في الجملة ، حسن التزيين بلبس ما فيه حسن/ وجمال فيها . قال الكيا الهراسي : ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد للفضل الذي يتعلق به تعظيما للمسجد والفعل الواقع فيه ، مثل الاعتكاف والصلاة والطواف . وقال ابن الفرس : استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية . واستدل بها قوم من السلف على أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين . كذا في ( الإكليل ) . والأخير في الغلو في النزع . وقال ابن كثير : ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة ، يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد . والطيب لأنه من الزينة . والسواك لأنه من تمام ذلك . ومن أفضل اللباس البياض لما روى الإمام أحمد{[3901]} وأبو داود{[3902]} والترمذي{[3903]} عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم . وإن من خير أكحالكم الإثمد ، يجلوا البصر وينبت الشعر " ولأحمد{[3904]} وأهل ( السنن ) ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم " . وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين : " أن تميما الداري اشترى رداء بألف ، وكان يصلي فيه " .
الرابع : وجه تأثر الأمر بأخذ الزينة ، بالأمر بالأكل والشرب في قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } ما رواه الكلبي : " أن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، يعظمون بذلك حجهم . فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله . / فأنزل الله عز وجل : { وكلوا واشربوا } ؟ . وقال السدي : " كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم . فقال الله تعالى لهم : { وكلوا واشربوا . . . } الآية " .
الخامس : فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل ، وذلك بتحريمه ، وقال الجشمي اليمني في تفسيره ( التهذيب ) : تدل الآية على المنع من الإسراف . وذلك على وجهين :
أولهما : إنفاق في معصية كالفخار واللعب والزنى والخمر ونحوها . وثانيهما : أن يتعدى الحدود وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار . لأن من له قدر يسير ، لو أنفقه في ضيافة أو طيب أو ثياب خز ، وهو وعياله يحتاجون إليه ، فهو سرف محرم . ومثله في الموسرين لا يقبح ولا يكون سرفا . وتدل على أن الأشياء على الإباحة . والعقل يدل على ذلك . لأنه تعالى خلقه لمنافعهم . والسمع ورد مؤكدا ولذلك قال : { من حرم } مطالبا بدليل سمعي 1ه .
وقد روى الإمام أحمد{[3905]} عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده " . وأخرج النسائي{[3906]} وابن ماجة {[3907]}نحوه .
وقال البخاري{[3908]} : قال ابن عباس : " كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان . / سرف أو مخيلة " . ورواه ابن جرير{[3909]} عنه أيضا بلفظ : " أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة " . قال الشهاب : هذا ( أي ما قاله ابن عابس ) لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء ؛ أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ، ولبس ما يشتهيه الناس ، كما قيل :
نصيحة نصيحة *** قالت بها الأكياس
كل ما اشتهيت والبس *** ن ما اشتهته الناس
فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس ، وهذا لإباحة كل ما اعتادوه . و ( المخيلة : لكبر ) . و ( ما ) دوامية زمانية . و ( أخطأتك ) من قولهم أخطأ فلان كذا ، إذا عدمه . وفي ( الأساس ) : من المجاز لن يخطئك ما كتب لك ، وأخطأ المطر الأرض : لم يصبها ، وتخاطأته النبل : تجاوزته وتخطأته . انتهى .
وفي قوله تعالى : { إنه لا يحب المسرفين } وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن من لم يحبه الله لم يرض عنه .
السادس : تناقل المفسرون وغيرهم ما قيل إن قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } الآية- جمع الطب كله . وأصله ما حكاه الزمخشري والكرماني في ( عجائبه ) ؛ أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان : علم الأبدان ، وعلم الأديان . فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه . قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى " { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } ، فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب ! فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة . قال : وما هي ؟ قال قوله{[3910]} : " المعدة بيت الداء ، والحمية / رأس الدواء ، وأعط كل بدن ما عودته " . فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا .
قال في ( العناية ) : وترك بعضهم تمام القصة ، لأن في ثبوت هذا الحديث كلاما للمحدثين . وفي ( شعب الإيمان ) للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة ، فإن صحت المعدة ، صدرت العروق بالصحة ، وإذا فسدت المعدة ، صدرت العروق بالسقم " . –انتهى- .
أقول : إن صحت هذه الحكاية ، فصواب جواب النصراني في سؤاله الثاني بالتفنيد والفرية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر عنه من بدائع الطب وأصناف العلاج ما لم يؤثر عن نبي قط . وللمحدثين ، في عهد السلف ، منه قسم كبير في جوامعهم ومسانيدهم . وأما أعلام المتأخرين فقد اضطرهم وفرة ما روي في ذلك إلى تدوينه في أسفار مطولة ومختصرة بعنوان ( الطب النبوي ) . وقد بين الإمام ابن القيم : عليه الرحمة ، اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب ، والسنة المطهرة على بدائعه ، في كتابه ( زاد المعاد ) ، بيانا يدهش الألباب ، وفوق كل ذي علم عليم . قال ، عليه الرضوان ، في كتابه ( زاد المعاد ، في هدي خير العباد ) :
قد أتينا على جمل من هديه صلى الله عليه وسلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم ، ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به ، ووصفه لغيره ، ونبين ما فيه من الحكمة التي يعجز أكثر عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها ، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم ، فنحن نقول وبالله المستعان :
المرض نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان . وهما مذكوران في القرآن . ومرض/ القلب نوعان : مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغي ؛ وكلاهما في القرآن . قال تعالى في مرض الشبهة . { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا }{[3911]} ، وقال تعالى : { وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا }{[3912]} . وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ، بل أولئك هم الظالمون }{[3913]} . فهذا مرض الشبهات والشكوك .
وأما مرض الشهوات فقال تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذين في قلبه مرض وقلن قولا معروفا }{[3914]} . فهذا مرض شهوة الزنى- والله أعلم .
وأما مرض الأبدان فقال تعالى{[3915]} : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } . وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع ، يبين / ذلك عظمة القرآن والاستغناء به ، لمن فهمه وعقله ، عن سواه . وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ؛ والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة . فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة . فقال في آية الصوم : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }{[3916]} . فأباح الفطر للمريض لعذر المرض ؛ والمسافر ، طلبا لحفظ صحته وقوته ، لئلا يذهبها الصوم في السفر ، لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل ، فتخور القوة وتضعف ، فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها . وقال في آية الحج : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك }{[3917]} . فأباح للمريض ، ومن به أذى من رأسه ، من قمل أو/ حكة أو غيرهما ، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر ، وإذا حلق رأسه تفتحت المسامات فخرجت تلك الأبخرة منها . فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه . والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج ، والمني إذا سبغ ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش . وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه . وقد نبه سبحانه ، باستفراغ أدناها وهو البخار المتحقن في الرأس ، على استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن ؛ التنبيه بالأدنى على الأعلى .
وأما الحمية ، فقال في آية الوضوء : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا }{[3918]} . فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه . وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له ، من داخل أو خارج . فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ، ومجامع قواعده ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي .
فأما طب القلوب ، فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم ، وعلى أيديهم . فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها ، وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه . ولا صحة لها ولا حياة لها البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل . وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم ، فغلط ممن يظن ذلك . وإنما ذلك حياة نفسه/ البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها . وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل . ومن لم يميز بين هذا وبين هذا ، فليبك على حياة قلبه ، فإنه من الأموات . وعلى نوره ، فإنه منغمس في بحار الظلمات – انتهى- .
وقد قرر رحمه الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتابه ( طريق الهجرتين ) نورده أيضا لبداعة أسلوبه . قال عليه الرحمة :
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه ، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي بفساد يعرض له ، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية ، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل ، وإما أن ينقص إدراكه لضعف من آلات الإدراك مع استقامة إدراكه ، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه ، كما يدرك الحلو مرا ، والخبيث طيبا ، والطيب خبيثا . وأما فساد حركته الطبيعية ، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة . فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال ، ولكن مع ذلك لم يصل إل حد الموت والهلاك ، بل في نوع قوة على الإدراك والحركة ؛ وسبب هذا الخروج عن الاعتدال ، إما فساد في الكمية أو في الكيفية فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها ، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها . والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي ؛ فيداوي بمقتضى ذلك . ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة . ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة . وقد تضمنها الكتاب العزيز ، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة . فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان ، ويقضي المسافر إذا قدم ، والمريض إذا برأ ، حفظا لقوتهما عليهما . فإن الصوم يزيد المريض ضعفا ، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر ، فالصوم يضعفها . فأما الحمية عن المؤذي ، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره ، وأمره بالعدول إلى التيمم ، حمية له/ عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه ، فكيف بالمؤذي له في باطنه ؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة ، فإنه سبحانه أباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له ، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفها ، فنبه به على ما هو أحوج إليه منه .
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال : والله ! لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة ، لكان سفرا قليلا- أو كمال قال- انتهى .