تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (31)

الآية 31 وقوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } يحتمل أن يكون الخطاب ، وإن خرّج مُخرج الأمر بأخذ الزينة واللباس فهو على النهي عن نزعها لأن الناس{[8266]} يكونون آخذين الزينة وساترين عوراتهم غير بادين لها . فإن كان كذلك فهو على النهي عن نزع لباسهم وإبداء عوراتهم ، وهو ما ذكر في بعض القصة : أن أهل الشرك كانوا إذا طافوا بالبيت نزعوا ثيابهم ، ويقولون : لا نطوف في ثيابنا التي أذنبنا فيها .

فإن كان التأويل [ ما ]{[8267]} قال ابن عباس وهؤلاء [ ففيه إضمار ]{[8268]} ، كأنه قال : خذوا زينتكم عند هذا المسجد كما تأخذون عند كل مسجد سواء . وإلا خرّج تأويل الآية على وجوه :

أحدها : يقول : صلّوا في كل مسجد ، ذكر هذا لمن لا يرى الصلاة إلا في مسجده على ما روي أن لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد .

والثاني : صلّوا بكل مسجد وبكل مكان كقوله عليه السلام ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) [ البخاري 335 ] .

والثالث : يجعل الزينة العبادة نفسها بقوله تعالى : { خذوا زينتكم } .

ويحتمل ما ذكره أهل التأويل [ كان أهل اليمن ]{[8269]} يستعيرون من أهل مكة ثيابا ، يطوفون فيها ، وإن لم يجدوا طافوا{[8270]} عراة مبدين عوراتهم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، وقال : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } أي [ لا ]{[8271]} تنزعوا ثيابكم عن عوراتكم . فهو على النهي عن نزع الثياب وإبداء العورة .

وكذلك قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } يخرّج على النهي عما حرّموا على أنفسهم من أنواع المنافع والنعم التي أحل الله لهم من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ومن نحو ما حرّموا من الزرع والطعام وكقوله تعالى : { وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرّمت ظهورها } الآية [ الأنعام : 138 ] .

خرّج قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } على النهي عما حرّموا مّما أحل لهم لا على الأمر بالأكل والشرب ؛ لأن كل أحد يأكل ، ويشرب ، ولا يدع ذلك . فدل أنه خرّج على النهي لما حرّموا . كأنه قال : لا تحرّموا ، ولكن كلوا ، واشربوا ، وانتفعوا بها .

فإن كان على ابتداء الأمر بأخذ الزينة والتجمّل عند كل مسجد ، والمسجد هو مكان كل عبادة ونسك على ما يكون في غير ذلك من الأوقات يتزيّنون ، ويتجمّلون عند اجتماع الناس . فعلى ذلك يكونون في مكان العبادة والنّسك ، أو أن يكون كما في المسجد اجتماع الناس للعبادة{[8272]} ، فأمروا بستر عوراتهم في ذلك . ويكون قوله تعالى : { واشربوا ولا تسرفوا } أي كلوا ، واشربوا ، واحفظوا الحد في ذلك ، ولا تجاوزوا . وهو النهي عن الكثرة . وما ذكرنا أنه نهاهم عن التحريم{[8273]} وترك الانتفاع بها . وفي تحريم ما أحل الله وترك الانتفاع بها إسراف { إنه لا يحب المسرفين } لأنه لا يحب الإسراف .

وقد ذكرنا أن المفروض من الستر هو ما يستر به العورة . وأما غيره فإنما هو على دفع الأذى والتجمّل .

ألا ترى أنه قال : { ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما } [ الأعراف : 27 ] وقال : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم }[ الأعراف : 26 ] من علينا بما أنزل مما نستر به عوراتنا ، وإن كانت له المنّة في الكل . وذلك قبيح في الطبع أن ينظر أحد إلى عورة آخر . وعلى ذلك جاءت الآثار في الأمر بستر العورة : روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ، فقيل : يا رسول الله فإن كان بعضنا من بعض ؟ فقال : إن استطعت أن لا تظهر عورتك فافعل . فقيل فإذا كان أحدنا خاليا ؟ فقال : فالله أحق أن يستحيى منه ) [ بنحو البخاري : 278 ] وعنه صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[8274]} قال : ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ) [ ابن ماجه 661 ] ومثله كثير ، وفي ما ذكرنا كفاية .

وعلى ذلك يخرّج الأمر بالإقبار لستر العورة . ألا ترى أنه قال تعالى : { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه } الآية [ المائدة : 31 ] لئلا يرى عورته ؟ لأنه يكون جفاء .


[8266]:من م، في الأصل: الإنسان.
[8267]:ساقطة من الأصل وم.
[8268]:في الأصل وم: فيكون فيه.
[8269]:في الأصل وم: كانوا.
[8270]:في م: بها طافوا فيها.
[8271]:من م، ساقطة من الأصل.
[8272]:في الأصل وم: العبادة.
[8273]:في الأصل وم: التحريك.
[8274]:ساقطة من الأصل وم.