معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

قوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } . قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره ، يعني جنته ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقالوا : كيف بقي الوزر ؟ فقال : ثبت الأجر للغلام ، وبقي الوزر على والده ، وقوله { وآتوا } خطاب للأولياء والأوصياء ، واليتامى : جمع يتيم ، واليتيم : اسم لصغير لا أب له ولا جد وإنما يدفع المال إليهم بعد البلوغ ، وسماهم يتامى ها هنا على معنى انهم كانوا يتامى .

قوله تعالى { ولا تتبدلوا } . لا تستبدلوا .

قوله تعالى : { الخبيث بالطيب } . أي : مالهم الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم ، واختلفوا في هذا التبديل ، قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي : كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الردئ فربما كان أحد يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول : درهم بدرهم ، فنهوا عن ذلك وقيل : كان أهل الجاهلية لا يورثون السناء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث ، فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي يأخذه خبيث ، وقال مجاهد : لا تتعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال .

قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } . أي : مع أموالكم ، كقوله تعالى { من أنصاري إلى الله } ، أي : مع الله .

قوله تعالى : { إنه كان حوباً كبيراً } . إثماً عظيماً .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

1

من هذا الافتتاح القوي المؤثر ، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة ، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير ، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته : من التكافل في الأسرة والجماعة ، والرعاية لحقوق الضعاف فيها ، والصيانة لحق المرأة وكرامتها ، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها ، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع . .

ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد . وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعا في أموالهن . أما السفهاء الذي يخشى من اتلافهم للمال ، إذا هم تسلموه ، فلا يعطى لهم المال ، لأنه في حقيقته مال الجماعة ، ولها فيه قيام ومصلحة ، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه ، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة .

وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم . إنه كان حوبا كبيرا . وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا . ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ، وارزقوهم فيها واكسوهم ، وقولوا لهم قولا معروفا . وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيبا . .

وتشي هذه التوصيات المشددة - كما قلنا - بما كان واقعا في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة . والأيتام والنساء بصفة خاصة . . هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم - المقتطع أصلا من المجتمع الجاهلي - حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها ، وينشىء في الجماعة المسلمة تصورات جديدة ، ومشاعر جديدة ، وعرفا جديدا ، وملامح جديدة .

( وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، إنه كان حوبا كبيرا ) . .

أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم ، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد . كأن تأخذوا أرضهم الجيدة ، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة ، أو ماشيتهم ، أو أسهمهم ، أو نقودهم - وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة - أو أي نوع من أنواع المال ، فيه الجيد وفيه الرديء . . وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم ، كلها أو بعضها . . إن ذلك كله كان ذنبا كبيرا . والله يحذركم من هذا الذنب الكبير . .

فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة . فالخطاب يشي بأنه كان موجها إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور . وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية . . وفي كل جاهلية يقع مثل هذا . ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى . وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق ،

وشتى الحيل ، من أكثر الأوصياء ، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية ، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر . فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة ، ولا الرقابة الظاهرية . . كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد . . التقوى . . فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر ، فتصبح للتشريع قيمته وأثره . كما وقع بعد نزول هذه الآية ، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم ، ويعزلوا طعامه عن طعامهم ، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم ، الذي حذرهم الله منه وهو يقول : ( إنه كان حوبا كبيرا ) . .

إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات . ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات . . وهذه التقوى لا تجيش - تجاه التشريعات والتنظيمات - إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر ، الرقيبة على الضمائر . . عندئذ يحس الفرد - وهو يهم بانتهاك حرمة القانون - أنه يخون الله ، ويعصي أمره ، ويصادم إرادته ؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله . . وعندئذ تتزلزل أقدامه ، وترتجف مفاصله ، وتجيش تقواه . .

إن الله أعلم بعباده ، وأعرف بفطرتهم ، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي - وهو خلقهم - ومن ثم جعل التشريع تشريعه ، والقانون قانونه ، والنظام نظامه ، والمنهج منهجه ، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته . . وقد علم - سبحانه - أنه لا يطاع أبدا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب ، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب . وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد ، تحت تأثير البطش والإرهاب ، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة ، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة ، وكلما واتتهم الحيلة . مع شعورهم دائما بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَآتُواْ الْيَتَامَىَ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىَ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره أوصياء اليتامى ، يقول لهم : وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى أموالهم ، إذا هم بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد . { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } يقول : ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم . كما :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : الحلال بالحرام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : الحرام مكان الحلال .

قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث بالطيب الذي نهوا عنه ومعناه ، فقال بعضهم : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من ماله والرفيع منه ، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس ، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : لا تعط زيفا وتأخذ جيدا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السديّ ، وعن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ومعمر ، عن الزهري ، قالوا : يعطي مهزولاً ويأخذ سمينا .

وبه عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك ، قال : لا تعط فاسدا وتأخذ جيدا .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة . ويأخذ الدرهم الجيد ، ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قدّر لك من الحلال . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدّر لك .

وبه عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك كالذي :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ، ولا يورّثون الصغار يأخذه الأكبر . وقرأ : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : إذا لم يكن لهم شيء ، { والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ } لا يورثوهم ، قال ، فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي أخذه خبيث .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : تأويل ذلك : ولا تتبدّلوا أموال أيتامكم أيها الأوصياء الحرام عليكم الخبيث لكم ، فتأخذوا رفائعها وخيارها وجيادها «بالطيب الحلال لكم من أموالكم » { وتجعلوا } الرديء الخسيس بدلاً منه . وذلك أن تَبَدّل الشيء بالشيء في كلام العرب أخذ شيء مكان آخر غيره ، يعطيه المأخوذ منه ، أو يجعله مكان الذي أخذ . فإذا كان ذلك معنى التبديل والاستبدال ، فمعلوم أن الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك : هو أخذ أكبر ولد الميت جميع مال ميته ووالده دون صغارهم إلى ماله ، قول لا معنى له ، لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم ، فلم يستبدل مما أخذ شيئا . فما التبدّل الذي قال جلّ ثناؤه : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } ولم يبدّل الاَخذ مكان المأخوذ بدلاً ؟ وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجيء الحلال ، فإنهما أيضا إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال : إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها ، ففساده نظير فساد قول ابن زيد ، لأن من استعجل الحرام فأكله ، ثم آتاه الله رزقه الحلال فلم يبدّل شيئا مكان شيء ، وإن كانا أرادا بذلك أن الله جلّ ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجيء الحلال ، فيكون أكلهم ذلك سببا لحرمان الطيب منه ، فذلك وجه معروف ، ومذهب معقول يحتمله التأويل ، غير أن الأشبه في ذلك بتأويل الاَية ما قلنا ، لأن ذلك هو الأظهر من معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها ، فلا يكون ذلك من جنس حكم أوّل الاَية ، فأخرجها من أن يكون من غير جنسه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولا تخلطوا أموالهم يعني : أموال اليتامى بأموالكم فتأكلوها مع أموالكم . كما :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ } يقول : لا تأكلوا أموالكم وأموالهم ، تخلطوها فتأكلوها جميعا .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الاَية في أموال اليتامى ، كرهوا أن يخالطوهم ، وجعل وليّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فاخْوَانُكُمْ } قال : فخالطوهم واتّقوا .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } .

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ( بقوله ) : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } إن أكلكم أموال أيتامكم مع أموالكم حوب كبير . والهاء في قوله «إنّهُ » دالة على اسم الفعل ، أعني الأكل . وأما الحُوب : فإنه الإثم ، يقال منه : حاب الرجل يحوب حَوْبا وَحُوبا وحيابة ، ويقال منه : قد تحوّب الرجل من كذا ، إذا تأثم منه . ومنه قول أمية بن الأسكر الليثي :

وإنّ مُهاجِرَيْنِ تَكَنّفاهُ *** غَدَاتَئِذٍ لقَدْ خَطِئا وَحابا

ومنه قيل : نزلنا بَحوْبة من الأرض وبحيبة من الأرض : إذا نزلوا بموضع سَوء منها . والكبير : العظيم ، فمعنى ذلك : إن أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم ، إثم عند الله عظيم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { حُوبا كَبِيرا } قال : إثما .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } قال : إثما عظيما .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { كانَ حُوبا } أما حوبا : فإثما .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { حُوبا } قال : إثما .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } يقول : ظلما كبيرا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد ، يقول في قوله : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } قال : ذنبا كبيرا ، وهي لأهل الإسلام .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : { حُوبا كَبِيرا } قال : إثما والله عظيما .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

وآتوا اليتامى أموالهم أي إذا بلغوا ، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ، من اليتم وهو الانفراد . ومنه الدرة اليتيمة ، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات . ثم جمع يتمي على يتامى كأسري وأسارى ، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار ، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ . وروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر ، حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول نهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه قال ؛ وآتوهم إذا بلغوا . ويؤيد الأول ما روي : أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت . فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير . { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها . وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها ، وهذا تبديل وليس بتبدل . { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ، أي لا تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى : { فليأكل بالمعروف } { إنه } الضمير للأكل . { كان حوبا كبيرا } ذنبا عظيما . وقرئ حوبا وهو مصدر حاب { حوبا } وحابا كقال قولا وقالا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

{ اليتامى } : جمع يتيم ويتيمة ، واليُتْمُ في كلام العرب فقد الأب قبل البلوغ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يُتمَ بعد بلوغ »{[3838]} وهو في البهيمة فقد الأم في حال الصغر ، وحكى اليتيم في الإنسان من جهة الأم ، وقال ابن زيد : هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير ، فقيل لهم : ورثوهم أموالهم ، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالاً طيباً وتأخذوا الكل ظلماً حراماً خبيثاً ، فيجيء فعلكم ذلك تبدلاً ، وقالت طائفة : هذه المخاطبة هي لأوصياء الأيتام ، والمعنى : إذا بلغوا وأونس منهم الرشد : وسماهم يتامى وهم قد بلغوا ، استصحاباً للحالة الأولى التي قد ثبتت لهم من اليتم ، { ولا تتبدلوا } قيل : المراد ما كان بعضهم يفعل من أن يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف من ماله ، قاله سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك ، وقيل : المراد بذلك لا تأكلوا أموالهم خبيثاً ، وتدعوا أموالكم طيباً ، وقيل : معناه لا تتعجلوا أكل «الخبث » من أموالهم ، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله ، قاله مجاهد وأبو صالح ، و «الخبيث » و «الطيب » : إنما هو هنا بالتحليل والتحريم ، وروي عن ابن محيصن أنه قرأ - «ولا تبدلوا » - بإدغام التاء في التاء وجاز في ذلك الجمع بين ساكنين ، لأن أحدهما حرف مد ولين يشبه الحركة ، وقوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } استوى الأيتام في النهي عن أكل «أموالهم » كانوا ورثة ممنوعين من الميراث ومحجورين ، والآية نص في [ النهي عن ] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه ، وروي عن مجاهد أنه قال : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله : { وإن تخالطوهم فإخوانكم }{[3839]} وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة ، وقال ابن فورك عن الحسن : إنه تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة ، وقالت طائفة من المتأخرين { إلى } بمعنى مع ، وهذا غير جيد ، وروي عن مجاهد أن معنى الآية : ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تقريب للمعنى ، لا أنه أراد أن الحرف بمعنى الآخر ، وقال الحذاق : { إلى } هي على بابها وهي تتضمن الإضافة ، التقدير : «لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل » ، كما قال تعالى { من أنصاري إلى الله }{[3840]} أي من ينضاف إلى الله في نصرتي والضمير في { إنه } عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل الظاهر ، والحوب : الإثم ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما ، تقول : حاب الرجل يحوب حُوباً وحاباً وحَوْباً إذا أثم ، قال أمية بن الأسكر{[3841]} : [ الوافر ]

وإنَّ مُهَاجِريْنِ تَكَنَّفَاهُ . . . غَدَاتئذٍ لَقَدْ خَطِئا وَخَابَا

وقرأ الحسن : «حَوبا » بفتح الحاء ، وهي لغة بني تميم ، وقيل : هو بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم ، وتحوب الرجل إذا ألقى الحوب عن نفسه ، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج ، فإن هذه الأربعة تفعل كله لأن تفعل معناه الدخول في الشيء كتعبد وتكسب وما أشبهه ويلحق بهذه الأربعة تفكهون ، في قوله تعالى : { لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون }{[3842]} أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم ، بدليل قوله بعد ذلك { إنّا لمغرمون بل نحن محرومون } [ الواقعة : 66 و 67 ] أي يقولون ذلك ، وقوله : { كبيراً } نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر .

وقوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } قال أبو عبيدة{[3843]} : { خفتم } هنا بمعنى أيقنتم ، واستشهد بقول الشاعر : [ دريد بن الصمة ] : [ الطويل ]

فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بألفَي مُدَجَّجٍ{[3844]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وما قاله غير صحيح ، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه وإنما هو من أفعال التوقع ، إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين ، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا ، و { تقسطوا } معناه تعدلوا ، يقال : أقسط الرجل إذا عدل ، وقسط إذا جار ، وقرأ ابن وثاب والنخعي ، - «ألا تَقْسطوا » بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة - لا - كأنه قال : { وإن خفتم } أن تجوروا ، واختلف في تأويل الآية ، فقالت عائشة رضي الله عنها ، نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم ، فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن ، فقيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف ألا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يكايسن{[3845]} في حقوقهن ، وقاله ربيعة ، وقال عكرمة : نزلت في قريش ، وذلك أن الرجل منهم كان يتزوج العشر وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مالَ على مالِ يتيمه فتزوج منه ، فقيل لهم : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا ، وقال سعيد بن جبير والسدي وقتادة وابن عباس : إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ، ولا تتحرج في العدل بين النساء ، كانوا يتزوجون العشر وأكثر ، فنزلت الآية في ذلك ، أي كما تخافون «ألا تقسطوا في اليتامى » فكذلك فتحرجوا في النساء ، «وانكحوا » على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه ، وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنى وزجر عنه ، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك فتحرجوا من الزنى ، وانكحوا على ما حد لكم ، قال الحسن وأبو مالك وسعيد بن جبير : { ما طاب } ، معناه ما حل .

قال القاضي أبو محمد : لأن المحرمات من النساء كثير . وقرأ ابن أبي عبلة ، و «من طاب » على ذكر من يعقل ، وحكى بعض الناس أن { ما } في هذه الآية ظرفية ، أي ما دمتم تستحسنون النكاح .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المنزع ضعف وقال { ما } ولم يقل - من - لأنه لم يرد تعيين من يعقل ، وإنما أراد النوع الذي هو الطيب من جهة التحليل ، فكأنه قال : «فانكحوا الطيب » وهذا الأمر بالنكاح هو ندب لقوم وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه ، قال عليه السلام :< من استطاع منكم الباءة فليتزوج{[3846]} و{ مثنى وثلاث ورباع> : موضعها من الإعراب نصب على البدل من { ما طاب } ، وهي نكرات لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قاله أبو علي . وقال غيره : هي معدولة في اللفظ وفي المعنى ، وأيضاً فإنها معدولة وجمع ، وأيضاً فإنها معدولة مؤنثة ، قال الطبري : هي معارف لأنها لا تدخلها الألف واللام ، وخطأ الزجاج هذا القول ، وهي معدولة عن اثنين ، وثلاثة ، وأربعة ، إلا أنها مضمنة تكرار العدد إلى غاية المعدود ، وأنشد الزجاج لشاعر [ ساعدة بن جؤيّة ]{[3847]} : [ الطويل ]

ولكنّما أهلي بوادٍ أنيسُهُ . . . ذِئابٌ تبغّي الناسَ مثْنى ومَوْحَد

فإنما معناه اثنين اثنين ، وواحد واحداً ، وكذلك قولك : جاء الرجال مثنى وثلاث ، فإنما معناه : اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وربع » ساقطة الألف ، وتلك لغة مقصدها التخفيف كما قال الشاعر : على لسان الضب{[3848]} : [ المجتث ]

لا أشتهي أن أردّا . . . إلا عراداً عردّا

وصليانا بردا . . . . . . . . وعنكثا ملتبدا . ***

يريد بارداً . وقوله تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } قال الضحاك وغيره : المعنى ألا تعدلوا في الميل والمحبة والجماع والعشرة بين الأربع أو الثلاث أو الاثنتين ، ويتوجه على قول من قال : إنها نزلت فيمن يخاف أن ينفق مال اليتامى في نكاحاته ، أن يكون المعنى : ألا تعدلوا في نكاح الأربع والثلاث حتى تنفقوا فيه أموال يتاماكم ، أي فتزوجوا واحدة بأموالكم ، أو تسرّوا منها ، ونصب واحدة بإضمار فعل تقديره : فانكحوا واحدة . وقرأ عبد الرحمن بن هرمز والحسن : «فواحدةٌ » بالرفع على الابتداء ، وتقدير الخبر : فواحدة كافية ، أو ما أشبهه ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو .

و{ ما ملكت أيمانكم } يريد به الإماء ، والمعنى : إن خاف ألا يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه ، وأسند الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها ، ألا ترى أنها المنفقة ، كما قال عليه السلام : «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه »{[3849]} وهي المعاهدة المبايعة ، وبها سميت الأليَّةُ{[3850]} يميناً ، وهي المتلقية لكتاب النجاة ولرايات المجد{[3851]} ، وقد نهى عليه السلام عن استعمالها في الاستنجاء وأمر المرء بالأكل بها .


[3838]:- أخرجه أبو داود في سننه (الجامع الصغير 1/70).
[3839]:- من الآية (220) من سورة البقرة.
[3840]:- تكررت في الآية (52) من سورة آل عمران، والآية (14) من سورة الصف.
[3841]:- أمية بن الأسكر شاعر مخضرم، هاجر ابنه كلاب في الفتوح وكان أمية شيخا، فلما طالت غيبته قال هذه القصيدة البائية يرجو رده فرده عمر رضي الله عنه، (الإصابة 1/65، وانظر أيضا أخباره في الاستيعاب والأغاني وطبقات ابن سلام).
[3842]:- الآية (65) من سورة الواقعة.
[3843]:- مجازات القرآن: 1/116، والبحر المحيط 3/162.
[3844]:- الرواية المشهورة للبيت (وهو من شعر دريد بن الصمة): فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرّد وما رواه أبو عبيدة مختلف عن هذا البيت إذ هو هنالك رجز، وهو منسوب لليلى بنت الحمارس: قلت لكم خافوا بألف فارس مقنعين في الحديد اليابس.
[3845]:- المكايسة في البيع: تنقيص الثمن.
[3846]:- ورد هذا الحديث في البخاري (في باب الصوم وباب النكاح)
[3847]:- البيت لساعدة بن جؤية (انظر ديوان الهذليين 3/1166)، يقول: أهلي بواد ليس به أنيس، وإنما هم مع السباع والوحش في بلد قفر؛ وانظر مجاز القرآن 1/114).
[3848]:- قد مر هذا في ما تقدم من هذا الجزء ص: 357.
[3849]:- ورد في البخاري (أذان: 36، زكاة 16، 13، حدود: 19) ومسلم (زكاة: 91) والترمذي (زهد: 53) والنسائي (قضاة:2).
[3850]:- الألية: القسم أو اليمين.
[3851]:- لعله يشير إلى قول الشماخ في مدح عرابة الأوسي: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وآتوا اليتامى}، يعني الأوصياء، يعني أعطوا اليتامى {أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب}: ولا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحلال من أموالكم، ولا تذرو الحلال وتأكلوا الحرام، {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم}: يعني مع أموالكم، {إنه كان حوبا كبيرا}: إثما كبيرا، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الحوب الإثم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك تعالى ذكره أوصياء اليتامى، يقول لهم: وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى أموالهم، إذا هم بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد. {وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ}: ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم. {وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ}: الحلال بالحرام.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث بالطيب الذي نهوا عنه ومعناه؛ فقال بعضهم: كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من ماله والرفيع منه، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه... كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة. ويأخذ الدرهم الجيد، ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قدّر لك من الحلال.

وقال آخرون: كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء، ولا يورّثون الصغار، يأخذه الأكبر. وقرأ: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: إذا لم يكن لهم شيء، {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ} لا يورثوهم، قال، فنصيبه من الميراث طيب، وهذا الذي أخذه خبيث.

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ولا تتبدّلوا أموال أيتامكم أيها الأوصياء الحرام عليكم الخبيث لكم، فتأخذوا رفائعها وخيارها وجيادها بالطيب الحلال لكم من أموالكم وتجعلوا الرديء الخسيس بدلاً منه. وذلك أن تَبَدّل الشيء بالشيء في كلام العرب أخذ شيء مكان آخر غيره، يعطيه المأخوذ منه، أو يجعله مكان الذي أخذ.

{وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ}: ولا تخلطوا أموالهم يعني: أموال اليتامى بأموالكم فتأكلوها مع أموالكم... عن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى، كرهوا أن يخالطوهم، وجعل وليّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ} قال: فخالطوهم واتّقوا.

{إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا}: إن أكلكم أموال أيتامكم مع أموالكم حوب كبير. والهاء في قوله «إنّهُ» دالة على اسم الفعل، أعني الأكل. وأما الحُوب: فإنه الإثم. والكبير: العظيم، فمعنى ذلك: إن أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم إثم عند الله عظيم.

{إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا}: ظلما كبيرا... ذنبا كبيرا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{اليتامى} الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم: الانفراد.

وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب، إمّا على القياس وإما حكاية للحال التي كان عليها صغيراً ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له. وأمّا قوله عليه السلام:"لا يتم بعد الحلم" فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة، يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار.

فإن قلت: فما معنى قوله: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم}؟ قلت: إما أن يراد باليتامى الصغار، وبإتيانهم الأموال: أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة، حتى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. وإمّا أن يراد الكبار تسمية لهم يتامى على القياس، أو لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر، كما تسمى الناقة عشراء بعد وضعها. على أنّ فيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار.

{وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها.

{وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} ولا تنفقوها معها. وحقيقتها: ولا تضموها إليها في الإنفاق، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم. وتسوية بينه وبين الحلال.

فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلمَ ورد النهي عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها كان القبح أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك، فنعى عليهم فعلهم وَسَمّع َبهم، ليكون أزجر لهم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالاً طيباً وتأخذوا الكل ظلماً حراماً خبيثاً، فيجيء فعلكم ذلك تبدلاً...

...

والآية نص في [النهي عن] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه، وروي عن مجاهد أنه قال: الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله: {وإن تخالطوهم فإخوانكم}.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا} مَعْنَاهُ وَأَعْطُوا، أَيْ مَكِّنُوهُمْ مِنْهَا، وَاجْعَلُوهَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إجْرَاءُ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ إلَّا ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ الْكُلِّيَّ وَالِاسْتِبْدَادَ.

الثَّانِي: رَفْعُ الْيَدِ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ وَالْإِرْشَادِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ {الْيَتَامَى}.

وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ، فَإِذَا بَلَغَهُ خَرَجَ عَنْ هَذَا الِاسْمِ، وَصَارَ فِي جُمْلَةِ الرِّجَالِ.

وَحَقِيقَةُ الْيُتْمِ الِانْفِرَادُ؛ فَإِنْ رَشَدَ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَاسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ فِي النَّظَرِ لَهَا، وَالْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِهَا، وَالنَّظَرِ بِوُجُودِ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ مِنْهَا زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ وَمَعْنَاهُ مِنْ الْحَجْرِ، وَإِنْ بَلَغَ الْحُلُمَ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي غِرَارَتِهِ وَسَفَهِهِ مُتَمَادٍ عَلَى جَهَالَتِهِ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ حَقِيقَةً، وَبَقِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَجْرِ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ الِاسْمُ مَجَازًا لِبَقَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.

...

.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ}:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى تَأْكُلُوا تَجْمَعُوا وَتَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: مَعْنَاهُ مَعَ أَمْوَالِكُمْ.

وَالْمَعْنَى الَّذِي يَسْلَمُ مَعَهُ اللَّفْظُ مَا قُلْنَا: نُهُوا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ أَمْوَالَ الْيَتَامَى كَأَمْوَالِهِمْ وَيَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهَا بِالْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ اعْتَزَلَ كُلُّ وَلِيٍّ يَتِيمَهُ، وَأَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى آلَتِ الْحَالُ أَنْ يُصْنَعَ لِلْيَتِيمِ مَعَاشُهُ فَيَأْكُلَهُ، فَإِنْ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ فَسَدَ وَلَمْ يَقْرَبْهُ أَحَدٌ، فَعَادَ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِمْ، فَأَرْخَصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْمُخَالَطَةِ قَصْدًا لِلْإِصْلَاحِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إنْ كَانَ الْمَعْنَى بِالْآيَةِ الْإِنْفَاقُ فَذَلِكَ يَكُونُ مَا دَامَتْ الْوِلَايَةُ، وَيَكُونُ اسْمُ الْيُتْمِ حَقِيقَةً كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ الْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْكِينُ وَإِسْلَامُ الْمَالِ إلَيْهِ فَذَلِكَ عِنْدَ الرُّشْدِ، وَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ يَتِيمًا مَجَازًا؛ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَتِيمًا.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما بان من هذا تعظيمه لصلة الرحم بجعلها في سياق ذكره سبحانه وتعالى المعبر عنه باسمه الأعظم -كما فعل نحو ذلك في غير آية، وكان قد تقدم في السورة الماضية ذكر قصة أحد التي انكشفت عن أيتام، ثم ذكر في قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]، أن الموت مشرع لا بد لكل نفس من وروده؛ علم أنه لابد من وجود الأيتام في كل وقت، فدعا إلى العفة والعدل فيهم لأنهم بعد الأرحام أولى من يتقى الله فيه ويخشى مراقبته بسببه فقال: {وآتوا اليتامى} أي الضعفاء الذين انفردوا عن آبائهم، وأصل اليتم الانفراد {أموالهم} أي هيئوها بحسن التصرف فيها لأن تؤتوهم إياها بعد البلوغ- كما يأتي، أو يكون الإيتاء حقيقة واليتم باعتبار ما كان. أو باعتبار الاسم اللغوي وهو مطلق الانفراد، وما أبدع إيلاءها للآية الآمرة بعد عموم تقوى الله بخصوصها في صلة الرحم المختتمة بصفة الرقيب! لما لا يخفى من أنه لا حامل على العدل في الأيتام إلا المراقبة، لأنه لا ناصر لهم، وقد يكونون ذوي رحم.

ولما أمر بالعفة في أموالهم أتبعه تقبيح الشره الحامل للغافل على لزوم المأمور به فقال: {ولا تتبدلوا} أي تكلفوا أنفسكم أن تأخذوا على وجه البدلية {الخبيث} أي من الخباثة التي لا أخبث منها، لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان، فتهدم -جميع أمره {بالطيب} أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض، المعلية لقدر الإنسان؛ ثم بعد هذا النهي العام نوّه بالنهي عن نوع منه خاص، فقال معبراً بالأكل الذي كانت العرب تذم بالإكثار منه ولو أنه حلال طيب، فكيف إذا كان حراماً ومن مال ضعيف مع الغنى عنه: {ولا تأكلوا أموالهم} أي تنتفعوا بها أيّ انتفاع كان، مجموعة {إلى أموالكم} شرهاً وحرصاً وحباً في الزيادة من الدنيا التي علمتم شؤمها وما أثرت من الخذلان في آل عمران، وعبر بإلى إشارة إلى تضمين الأكل معنى الضم تنبيهاً على أنها متى ضمت إلى مال الولي أكل منها فوقع في النهي، فحض بذلك على تركها محفوظة على حيالها؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه} أي الأكل {كان حوباً} أي إثماً وهلاكاً {كبيراً}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

من هذا الافتتاح القوي المؤثر، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته: من التكافل في الأسرة والجماعة، والرعاية لحقوق الضعاف فيها، والصيانة لحق المرأة وكرامتها، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع..

ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد. وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعا في أموالهن. أما السفهاء الذي يخشى من اتلافهم للمال، إذا هم تسلموه، فلا يعطى لهم المال، لأنه في حقيقته مال الجماعة، ولها فيه قيام ومصلحة، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة

"وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم. إنه كان حوبا كبيرا".

وتشي هذه التوصيات المشددة -كما قلنا- بما كان واقعا في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة. والأيتام والنساء بصفة خاصة.. هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم -المقتطع أصلا من المجتمع الجاهلي- حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها، وينشئ في الجماعة المسلمة تصورات جديدة، ومشاعر جديدة، وعرفا جديدا، وملامح جديدة.

(وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، إنه كان حوبا كبيرا)..

أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد. كأن تأخذوا أرضهم الجيدة، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة، أو ماشيتهم، أو أسهمهم، أو نقودهم -وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة- أو أي نوع من أنواع المال، فيه الجيد وفيه الرديء.. وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم، كلها أو بعضها.. إن ذلك كله كان ذنبا كبيرا. والله يحذركم من هذا الذنب الكبير..

فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة. فالخطاب يشي بأنه كان موجها إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور. وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية.. وفي كل جاهلية يقع مثل هذا. ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى. وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق،

وشتى الحيل، من أكثر الأوصياء، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر. فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة، ولا الرقابة الظاهرية.. كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد.. التقوى.. فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر، فتصبح للتشريع قيمته وأثره. كما وقع بعد نزول هذه الآية، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم، ويعزلوا طعامه عن طعامهم، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم، الذي حذرهم الله منه وهو يقول: (إنه كان حوبا كبيرا)..

إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات. ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات.. وهذه التقوى لا تجيش -تجاه التشريعات والتنظيمات- إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر، الرقيبة على الضمائر.. عندئذ يحس الفرد -وهو يهم بانتهاك حرمة القانون- أنه يخون الله، ويعصي أمره، ويصادم إرادته؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله.. وعندئذ تتزلزل أقدامه، وترتجف مفاصله، وتجيش تقواه..

إن الله أعلم بعباده، وأعرف بفطرتهم، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي -وهو خلقهم- ومن ثم جعل التشريع تشريعه، والقانون قانونه، والنظام نظامه، والمنهج منهجه، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته.. وقد علم -سبحانه- أنه لا يطاع أبدا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب. وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد، تحت تأثير البطش والإرهاب، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة، وكلما واتتهم الحيلة. مع شعورهم دائما بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

مناسبة عطف الأمر على ما قبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله. وشيء هذا شأنه حقيق بأن تُراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك. وهذا ممَّا أشار إليه قوله تعالى: {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء...} [النساء: 1].

والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّاً له، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] وفي الحديث: « رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هَلَكَتِه في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها». وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقاً عليه اسم اليتيم، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم، فلنا أن نؤوّل {آتوا} بغير معنى ادفعوا. وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال: نزلت هذه الآية في الذين لا يُورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية، فيكون {آتوا} بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام، لا تأكيد بعضها لبعض، أو تقييد بعضها لبعض.

وقال صاحب « الكشاف»: « يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتّى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة» فهو تأويل للإيتاء بلازمه وهو الحفظ الذي يترتّب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء، وعليه فيكون هو معنى قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم}. وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيئ في قوله: {وابتلوا اليتامى} [النساء: 6] الآية. ولنا أن نؤوّل اليتامى بالذين جاوزوا حدّ اليُتْم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حدّ اليتيم، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيّداً بقوله الآتي: {حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6]. ومن الناس من قال: اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنّه مشتقّ من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه، ولا يخفى أنّ هذا القول جمود على توهّم أنّ الانفراد حقيقيّ وإنّما وضع اللفظ للانفراد المجازي، وهو انعدام الأب المنزّل منزلة بقاء الولد منفرداً وما هو بمنفرد فإنّ له أمّا وقوماً.

{ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب}: لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيّب... والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي، وهما استعارتان؛ فالخبيث المذموم أو الحرام، والطيّب عكسه وهو الحلال: وتقدّم في قوله تعالى: {يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} في البقرة (168). فالمعنى: ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيداً للأمر، ولكنّ النهي بيَّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر، وهذا الوجه ينبئ عن جعل التبدّل مجازاً والخبيث والطيّب كذلك، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال. وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي.

وقوله: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم، فينتسق في الآية أمر ونهيان: أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول.

والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده، ولا مطمع في إرجاعه، وضمّن (تأكلوا) معنى تضمّوا فلذلك عدي ب"إلى" أي: لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم.

وليس قيد {إلى أموالكم} محطّ النهي، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقاً سواء كان للآكل مال يَضُمّ إليه مالَ يتيمه أم لم يكن، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر، ذكر هذا القيد رعياً للغالب، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين، ولذلك روي: أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة (220): {وإن تخالطوهم فإخوانكم} فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولاً للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ. وهما في فهم العرب نهيان، وليس هو نهياً عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتاً بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدْوَنُ بصالح لأن يكون مفهوم موافقة.

والحُوب بضمّ الحاء لغة الحجاز، و بفتحها لغة تميم، وقيل: هي حبشية، ومعناه الإثم، والجملة تعليل للنهي: لموقع إنّ منها، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنّه إثم عظيم. ولكون إنّ في مثله لمجرد الاهتمام لتفيد التعليل أكِّد الخبر بكان الزائدة.