قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضاً ، { أن تحبط أعمالكم } لئلا تحبط حسناتكم . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم ، { وأنتم لا تشعرون } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : " لما نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية ، جلس ثابت ابن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فسأل محمد صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : أبا عمرو : ما شأن ثابت أيشتكى ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال : فأتاه سعد فذكر له قول محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : بل هو من أهل الجنة " . وروي أنه " لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وغلب ثابتاً البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني محمد صلى الله عليه وسلم ، فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبره فقال له : اذهب فادعه ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة فكسرها ، فأتيا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأنزل الله :{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } الآية . قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا ، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب ، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا ، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا ، واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن به في طوله ، وقد وضع على درعي برمة ، فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي ، وأت أبا بكر خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وقل له : إن علي ديناراً حتى يقضيه عني وفلان وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه له ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته . قال مالك بن أنس : لا أعلم وصيةً أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه . قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار . وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين يغضون أصواتهم } يخفضون أصواتهم عند النبي إجلالا له " . { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه . { لهم مغفرة وأجر عظيم* }
ونوه الله بتقواهم ، وغضهم أصواتهم عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في تعبير عجيب :
( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ، أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . لهم مغفرة وأجر عظيم ) . .
فالتقوى هبة عظيمة ، يختار الله لها القلوب ، بعد امتحان واختبار ، وبعد تخليص وتمحيص ، فلا يضعها في قلب إلا وقد تهيأ لها ، وقد ثبت أنه يستحقها . والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة . هبة التقوى . وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم .
إنه الترغيب العميق ، بعد التحذير المخيف . بها يربي الله قلوب عباده المختارين ، ويعدها للأمر العظيم . الذي نهض به الصدر الأول على هدى من هذه التربية ونور .
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء فقال : أتدريان أين أنتما ? ثم قال : من أين أنتما ? قالا : من أهل الطائف . فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا !
وعرف علماء هذه الأمة وقالوا : إنه يكره رفع الصوت عند قبره [ صلى الله عليه وسلم ] كما كان يكره في حياته[ صلى الله عليه وسلم ] احتراما له في كل حال .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ أُوْلََئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَىَ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين يكفون رفع أصواتهم عند رسول الله ، وأصل الغضّ : الكفّ في لين . ومنه : غضّ البصر ، وهو كفه عن النظر ، كما قال جرير :
فَغُضّ الطّرْفَ إنّكَ مِنْ نُمَيْرٍ *** فَلا كَعْبا بَلَغْتَ وَلا كِلابا
وقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ للتّقْوى يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ، هم الذين اختبر الله قلوبهم بامتحانه إياها ، فاصطفاها وأخلصها للتقوى ، يعني لاتقائه بأداء طاعته ، واجتناب معاصيه ، كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخلص جيدها ، ويبطل خبثها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ قال : أخلص .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ قال : أخلص الله قلوبهم فيما أحبّ .
وقوله : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول : لهم من الله عفو عن ذنوبهم السالفة ، وصفح منه عنها لهم وأَجْرٌ عَظِيمٌ يقول : وثواب جزيل ، وهو الجنة .
{ إن الذين يغضون أصواتهم } يخفضونها . { عند رسول الله } مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي . قيل كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما . { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } جربها للتقوى ومرنها عليها ، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها ، فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى ، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها ، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه . { لهم مغفرة } لذنوبهم . { وأجر عظيم } لغضهم وسائر طاعاتهم ، والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لأن أو استئناف لبيان ما هو جزاء الغاضبين إحمادا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين ، والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم ، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له ، وتعريضا بشناعة الرفع والجهر وأن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك .