قوله تعالى : { قال بصرت بما لم يبصروا به } رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا . قرأ حمزة والكسائي : ( ما لم يبصروا ) بالتاء على الخطاب ، وقرأ الآخرون : بالياء على الخبر . { فقبضت قبضة من أثر الرسول } أي : من تراب أثر فرس جبريل { فنبذتها } ، أي : ألقيتها في فم العجل . وقال بعضهم : إنما خار لهذا لأن التراب كان مؤخوذاً من تحت حافر فرس جبريل . فإن قيل : كيف عرفه ورأى جبريل من بين سائر الناس ؟ قيل : لأن أمه لما ولدته في السنة التي كان يقتل فيها البنون وضعته في الكهف حذراً عليه ، فبعث الله جبريل ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة { وكذلك سولت } أي : زينت . { لي نفسي* }
( قال : بصرت بما لم يبصروا به ، فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها . وكذلك سولت لي نفسي ) . .
وتتكاثر الروايات حول قول السامري هذا . فما هو الذي بصر به ? ومن هو الرسول الذي قبض قبضة من أثره فنبذها ? وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه ? وما أثر هذه القبضة فيه ?
والذي يتردد كثيرا في هذه الروايات أنه رأى جبريل - عليه السلام - وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض ؛ فقبض قبضة من تحت قدمه ، أو من تحت حافر فرسه ، فألقاها على عجل الذهب ، فكان له هذا الخوار . أو إنها هي التي أحالت كوم الذهب عجلا له خوار .
والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث ، إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية . . ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذرا من السامري وتملصا من تبعة ما حدث . وأنه هو صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم ، وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتا كالخوار . ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه ، ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول !
وقوله : " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يقول : قال السامريّ : علمت ما لم يعلموه ، وهو فعلت من البصيرة : أي صرت بما عملت بصيرا عالما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما قتل فرعون الولدان قالت أمّ السامريّ : لو نحيته عني حتى لا أراه ، ولا أدري قتله ، فجعلته في غار ، فأتى جبرئيل ، فجعل كفّ نفسه في فيه ، فجعل يُرضعه العسل واللبن ، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه ، فمن ثم معرفته إياه حين قال : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " .
وقال آخرون : هي بمعنى : أبصرت ما لم يبصروه . وقالوا : يقال : بصرت بالشيء وأبصرته ، كما يقال : أسرعت وسرعت ما شئت . ذكر من قال : هو بمعنى أبصرت :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة قال " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يعني فرس جبرئيل عليه السلام .
وقوله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " يقول : قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار ، وتكسرت ، ورأى السامريّ أثر فرس جبرئيل عليه السلام ، فأخذ ترابا من أثر حافره ، ثم أقبل إلى النار فقذفه فيها ، وقال : كن عجلاً جسدا له خوار ، فكان للبلاء والفتنة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قبض قبضة منه من أثر جبرئيل ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلاً جسدا له خوار ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَر الرّسُولِ فَنَبَذْتُها " قال : من تحت حافر فرس جبرئيل ، نبذه السامريّ على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلاً جسدا له خوار ، حفيف الريح فيه فهو خواره ، والعجل : ولد البقرة .
واختلف القرّاء في قراءة هذين الحرفين ، فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " بالياء ، بمعنى : قال السامريّ : بصرت بما لم يبصر به بنو إسرائيل . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بهِ » بالتاء على وجه المخاطبة لموسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بمعنى : قال السامريّ لموسى : بصرت بما لم تبصر به أنت وأصحابك .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء مع صحة معنى كل واحدة منهما ، وذلك أنه جائز أن يكون السامريّ رأى جبرئيل ، فكان عنده ما كان بأن حدثته نفسه بذلك أو بغير ذلك من الأسباب ، أن تراب حافر فرسه الذي كان عليه يصلح لما حدث عنه حين نبذه في جوف العجل ، ولم يكن علم ذلك عند موسى ، ولا عند أصحابه من بني إسرائيل ، فلذلك قال لموسى : «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بهِ » أي علمت بما لم تعلموا به . وأما إذا قرىء " بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " بالياء ، فلا مؤنة فيه ، لأنه معلوم أن بني إسرائيل لم يعلموا ما الذي يصلح له ذلك التراب .
وأما قوله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " فإن قرّاء الأمصار على قراءته بالضاد ، بمعنى : فأخذت بكفي ترابا من تراب أثر فرس الرسول . وروي عن الحسن البصري وقتادة ما :
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد بن عوف ، عن الحسن أنه قرأها : «فَقَبَصْتُ قَبْصَةً » بالصاد .
وحدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن قَتادة مثل ذكر بالصاد . بمعنى : أخذت بأصابعي من تراب أثر فرس الرسول ، والقبضة عند العرب : الأخذ بالكفّ كلها ، والقبصة : الأخذ بأطراف الأصابع .
وقوله : " فَنَبَذْتُها " يقول : فألقيتها " وكَذَلَكَ سَوّلَتْ لي نَفْسِي " يقول : وكما فعلت من إلقائي القبضة التي قبضت من أثر الفرس على الحلية التي أوقد عليها حتى انسبكت فصارت عجلاً جسدا له خوار . " سَوّلَتْ لِي نَفْسِي " يقول : زينت لي نفسي أنه يكون ذلك كذلك ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " وكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي " قال : كذلك حدثتني نفسي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ" يقول: قال السامريّ: علمت ما لم يعلموه، وهو فعلت من البصيرة: أي صرت بما عملت بصيرا عالما...
وقال آخرون: هي بمعنى: أبصرت ما لم يبصروه... عن قَتادة قال "بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ "يعني فرس جبرئيل عليه السلام.
وقوله: "فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ" يقول: قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل...
وقوله: "فَنَبَذْتُها" يقول: فألقيتها، "وكَذَلَكَ سَوّلَتْ لي نَفْسِي "يقول: وكما فعلت من إلقائي القبضة التي قبضت من أثر الفرس على الحلية التي أوقد عليها حتى انسبكت فصارت عجلاً جسدا له خوار. "سَوّلَتْ لِي نَفْسِي" يقول: زينت لي نفسي أنه يكون ذلك كذلك... قال ابن زيد: "وكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي" قال: كذلك حدثتني نفسي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بصرت بما لم يبصروا به} بالياء والتاء جميعا. ثم بين ما الذي بصر هو ما لم يبصروا هم، فقال: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها}.
أما عامة أهل التأويل فإنهم يقولون: إنه قبض من تراب من أثر فرس جبريل، فنبذها. وليس في الآية ذكر التراب ولا ذكر الفرس ولا أن ذلك الرسول جبريل أو غيره. ويشبه أن يكون الذي قبضه هو تراب من أثر الفرس على ما قاله أهل التأويل. وقد ذُكر في حرف أبي: فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول.
فإن ثبت ما قالوا، وإلا لم نزد على ما ذكر في الكتاب... لذلك وجب حفظ ما حكي في الكتاب من الأنباء والأخبار من غير زيادة ولا نقصان مخافة الكذب إلا أن يثبت شيء يذكر عن رسول الله أنه كان، فعند ذلك يقال، وإلا فالكف أولى... قوله تعالى: {وكذلك سولت لي نفسي} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أي كذلك سولت لي نفسي: أنك متى تأخذ قبضة من أثر الرسول، فتنبذها في الحلي، يحيى.
[والثاني]: أن يكون سولت له نفسه على ما كانت عادتهم وطبيعتهم أنهم لا يعبدون إلها لا يرونه، ولا يقع بصرهم عليه حين {قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] وقالوا {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] فقال: {سولت لي نفسي} أن أتخد لهم عجلا يرونه، فيعبدونه، أو {سولت لي نفسي} أن في أخذ قبضة من أثر الرسول نبأ عظيما أو قال ذلك اعتذارا لجميع ما كان منه من أول الأمر إلى آخره أمره، والله أعلم.
ثم ذكر السامري عذره في ذلك فقال: {بصرت بما لم يبصروا به}:... في الإبصار قولان:
قال أبو عبيدة: علمت بما لم يعلموا به، ومنه قولهم: رجل بصير أي عالم وهذا، قول ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الزجاج في تقريره: أبصرته بمعنى رأيته وبصرت به بمعنى صرت به بصيرا عالما.
وقال آخرون: رأيت ما لم يروه فقوله بصرت به بمعنى أبصرته وأراد أنه رأى دابة جبريل عليه السلام فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب ثم قال: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها}:... عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول جبريل عليه السلام وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته... فعلى هذا قوله: {بصرت بما لم يبصروا به} بمعنى رأيت ما لم يروه. ومن فسر الكلمة بالعلم فهو صحيح ويكون المعنى علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء.
قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، فههنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به، أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من سنتك ودينك فقذفته أي طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة... وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولا مع جحده وكفره فعلى مثل مذهب من حكى الله عنه قوله: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} وإن لم يؤمنوا بالإنزال.
واعلم أن هذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه؛
أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه فبعيد، لأن السامري إن عرف جبريل حال كمال عقله عرف قطعا أن موسى عليه السلام نبي صادق فكيف يحاول الإضلال وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربيا له في الطفولية في حصول تلك المعرفة.
ورابعها: أنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه لكان لقائل أن يقول: فلعل موسى عليه السلام اطلع على شيء آخر يشبه ذلك فلأجله أتى بالمعجزات ويرجع حاصله إلى سؤال من يطعن في المعجزات ويقول: لم لا يجوز أن يقال إنهم لاختصاصهم بمعرفة بعض الأدوية التي لها خاصية أن تفيد حصول تلك المعجزة، أتوا بتلك المعجزة، وحينئذ ينسد باب المعجزات بالكلية.
أما قوله: {وكذلك سولت لي نفسي} فالمعنى فعلت ما دعتني إليه نفسي وسولت مأخوذ من السؤال فالمعنى لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري بل اتبعت هواي فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} السامري مجيباً له: {بصرت} من البصر والبصيرة {بما لم يبصروا به} من أمر الرسول الذي أجاز بنا البحر {فقبضت} أي فكان ذلك سبباً لأن قبضت {قبضة} أي مرة من القبض، أطلقها على المقبوض تسمية للمفعول بالمصدر {من أثر} فرس ذلك {الرسول} أي المعهود {فنبذتها} في الحلي الملقى في النار، أو في العجل {وكذلك} أي وكما سولت لي نفسي أخذ اثره {سولت} أي حسنت وزينت {لي نفسي} نبذها في الحلي فنبذتها، فكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع ولا حملني عليه حامل غير التسويل.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{قال بصرت بما لم يبصروا به} أي قال السامري: إني عرفت ما لم يعرفه القوم ولم تعرفه أنت، وعرفت أن ما أنتم عليه ليس بالحق.
{فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها} أي وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من سنتك ودينك فطرحته وخلاصة هذا: إن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم رد عليه بأنه كان استن بسنته، واقتفى أثره وتبع دينه، ثم استبان له أن ذلك هو الضلال بعينه، وأنه ليس من الحق في شيء، فطرحه وراءه ظهريا وسار على النهج الذي رأى. وفي التعبير بكلمة "الرسول "على هذا نوع من التهكم والسخرية، لأنه جاحد مكذب له، فهو على نحو ما حكى الله عن بعض الجاحدين بقوله: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر:6] وهم لا يؤمنون بالإنزال عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتتكاثر الروايات حول قول السامري هذا. فما هو الذي بصر به؟ ومن هو الرسول الذي قبض قبضة من أثره فنبذها؟ وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه؟ وما أثر هذه القبضة فيه؟ والذي يتردد كثيرا في هذه الروايات أنه رأى جبريل -عليه السلام- وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض؛ فقبض قبضة من تحت قدمه، أو من تحت حافر فرسه، فألقاها على عجل الذهب، فكان له هذا الخوار. أو إنها هي التي أحالت كوم الذهب عجلا له خوار. والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث، إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية.. ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذرا من السامري وتملصا من تبعة ما حدث. وأنه هو صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم، وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتا كالخوار. ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه، ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِه} إلى قوله {فَنَبَذْتُهَا} إن حُملت كلمات (بَصُرت بما لم يبصروا به. وقبضت قبضة، وأثر، ونبذتها) على حقائق مدلولاتها كما ذهب إليه جمهور المفسرين كان المعنى أبصرت ما لم يُبصروه، أي نظرت ما لم ينظروه، بناء على أن بَصُرت، وأبصرت كلاهما من أفعال النظر بالعين، إلا أن بصُر بالشيء حقيقته صار بصيراً به أو بصيراً بسببه، أي شديد الإبصار، فهو أقوى من أبصرت، لأنّه صيغ من فَعُل بضم العين الذي تشتق منه الصفات المشبهة الدالة على كون الوصف سجية، قال تعالى: {فبصرت به عن جنب} في سورة القصص (11).
ولما كان المعنى هنا جليّاً عن أمر مرئيّ تعيّن حمل اللفظ على المجاز باستعارة بصُر الدال على قوّة الإبصار إلى معنى العِلم القويّ بعلاقة الإطلاق عن التقييد، كما في قوله تعالى: {فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]، وكما سميت المعرفة الراسخة بَصيرة في قوله {أدعوا إلى الله على بصيرة} [يوسف: 108]. وحكى في « لسان العرب» عن اللحياني: إنه لبصير بالأشياء، أي عالم بها، وبصرت بالشيء: علمته. وجعل منه قوله تعالى: {بصرت بما لم يبصروا به}، وكذلك فسرها الأخفش في نقل « لسان العرب» وأثبته الزجاج. فالمعنى: علمتُ ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له، كما جعله في « الكشاف» أول وجهين في معنى الآية. ولذلك طريقتان: إما جعل بصُرت مجازاً، وإما جعله حقيقة...
والأثر: حقيقته: ما يتركه الماشي من صورة قَدَمِه في الرمل أو التراب. وتقدم آنفاً عند قوله تعالى: {قال هم أولاء على أثري} [طه: 84].
وعلى حمل هذه الكلمات على حقائقها يتعين صرف الرسول عن المعنى المشهور، فيتعين حمله على جبريل فإنه رسول من الله إلى الأنبياء. فقال جمهور المفسرين: المراد بالرسول جبريل، ورووا قصة قالوا: إن السامري فتنهُ الله، فأراه الله جبريل راكباً فرساً فوطئ حافر الفرس مكاناً فإذا هو مخضَرّ بالنبات. فعلم السامري أن أثر جبريل إذا ألقي في جماد صار حياً، فأخذ قَبضة من ذلك التراب وصنَع عجلاً وألقى القبضة عليه فصار جسداً، أي حياً، له خوار كخوار العجل، فعبر عن ذلك الإلقاء بالنبذ. وهذا الذي ذكروه لا يوجد في كتب الإسرائيليين ولا ورد به أثر من السنّة وإنما هي أقوال لبعض السلف ولعلها تسربت للناس من روايات القصاصين.
فإذا صُرفت هذه الكلمات الستُّ إلى معان مجازية كان {بصُرت} بمعنى علمتُ واهتديت، أي اهتديت إلى علم ما لم يعلموه، وهو علم صناعة التماثيل والصور الذي به صنع العجل، وعلم الحِيل الذي أوجد به خُوار العجل، وكانت القبضة بمعنى النصيب القليل، وكان الأثر بمعنى التعليم، أي الشريعة، وكان "نبذت "بمعنى أهملت ونقضت، أي كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة فانخلعت عنها بالكفر. وبذلك يصح أن يحمل لفظ الرسول على المعنى الشائع المتعارف وهو مَن أوحي إليه بشرع من الله وأُمر بتبليغه.
وكان المعنى: إني بعملي العجل للعبادة نقضت اتباع شريعة موسى. والمعنى: أنه اعترف أمام موسى بصنعِهِ العجل واعترف بأنه جَهِل فَضَلّ، واعتذر بأن ذلك سوّلته له نفسه.
والتشبيه في قوله {وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} تشبيه الشيء بنفسه، كقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} [البقرة: 143]، أي كذلك التسويل سولت لي نفسي، أي تسويلاً لا يقبل التعريفَ بأكثر من ذلك.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فقبضت قبضة من أثر الرسول} والأثر ليس هو أثر جبريل، ولا فرس جبريل، ولكنه أثر معنوي، والرسول ليس هو جبريل، فلم يجئ ذكر لجبريل في هذا الموضوع حتى يراد بالمعرف ب"أل"، إنما الرسول الذي تكرر ذكره بالرسالة هو موسى كليم الله، وأثر موسى كليم الله تعالى هو دعوته إلى التوحيد، وإلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فذلك هو أثر موسى وهو أثر كل رسول برسالة سماوية من الله تعالى {فنبذتها}، أي ألقاها في مهب الريح، كما تلقى النواة وترمى، واستبدل بالتوحيد الشرك والكفر، وأن يكون على دين من يعبدوه البقر لعنهم الله تعالى، وقد بين بعد ذلك أن هذا من هوى النفس وليس قائما على منطق من عقل، ولذا قال: {وكذلك سولت لي نفسي}، أي كذلك الذي رأيتم من فتنة بني إسرائيل بهذا التضليل زينت لي نفسي، ومعنى التسويل أنه تردد في هذا الأمر بتساؤل نفسي حتى أختار ما أختار وزينته وحسنته. كان لابد له من عقاب يكون به عبرة في الدنيا، وعقاب الآخرة ثابت له. ولذا ذكره موسى الكليم بعقاب في الدنيا، وترك عقاب الآخرة لربه الأعلى.
... وقد أدى به اجتهاده إلى صناعة العجل؛ لأنه رأى قومه يحبون الأصنام. وسبق أن طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها لما رأوا قوما يعبدون الأصنام، فانتهز السامري فرصة غياب موسى، وقال لهم: سأصنع لكم ما لم يستطع موسى صناعته، بل وأزيدكم فيه. لقد طلبتم مجرد صنم من حجارة إنما أنا سأجعل لكم عجلا جسدا من الذهب، وله صوت وخوار مسموع...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} فليس هناك سر خفي أدّعيه من وحي أو غيب، بل كل ما هناك أني استسلمت لبعض رغبات النفس الأمّارة بالسوء، في ما سولت لي بأن أثير في المجتمع أوضاعاً قلقة تربك الجو، وتنحرف بالمسيرة، وتقوده إلى الضلال،