إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي} (96)

{ قَالَ } أي السامريُّ مجيباً له عليه السلام : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } بضم الصاد فيهما ، وقرئ بكسرها في الأول وفتحِها في الثاني ، وقرئ بالتاء على الوجهين على خطاب موسى عليه السلام وقومِه ، أي علمتُ ما لم يعلمْه القوم وفطِنت لما لم يفطَنوا له أو رأيت ما لم يرَوه ، وهو الأنسب بما سيأتي من قوله : { وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } لاسيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاءَ علمِ ما لم يعلمه موسى عليه السلام جرأةٌ عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاءِ رؤيةِ ما لم يرَه عليه السلام فإنها مما يقع بحسب ما يتفق ، وقد كان رأى أن جبريلَ عليه السلام جاء راكبَ فرسٍ وكان كلما رفع الفرسُ يديه أو رجليه على الطريق اليَبَس بخرج من تحته النباتُ في الحال ، فعرف أن له شأناً فأخذ من موطئه حفنةً وذلك قوله تعالى : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } وقرئ من أثر فرسِ الرسولِ أي من تربة موطِيء فرسِ الملَك الذي أُرسل إليك ليذهبَ بك إلى الطور ، ولعل ذكرَه بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقِفْ عليه القومُ من الأسرار الإلهية تأكيداً لما صدّر به مقالتَه والتنبيهِ على وقت أخْذِ ما أخذه ، والقبضةُ المرّةُ من القبض أُطلقت على المقبوض مرةً ، وقرئ بضم القاف وهو اسمُ المقبوض كالغُرفة والمُضغة ، وقرئ فقبصْت قبصة بالصاد المهملة والأول للأخذ بجميع الكف والثاني بأطراف الأصابع ، ونحوُهما الخضْمُ والقضم { فَنَبَذْتُهَا } أي في الحُليّ المُذابة فكان ما كان { وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي ما فعلتُه من القبض والنبذ فقوله تعالى : { ذلك } إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ المذكور بعده ، ومحلُّ كذلك في الأصل النصبُ على أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر محذوف والتقديرُ سولت لي نفسي تسويلاً كائناً مثلَ ذلك التسويلِ فقُدّم على الفعل لإفادة القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً لإفادة تأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة فصار نفسَ المصدرِ المؤكّدِ لا نعتاً له ، أي ذلك التزيينَ البديعَ زينت لي نفسي ما فعلتُه ، لا تزييناً أدنى منه ولذلك فعلتُه وحاصلُ جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحضر اتباعِ هوى النفسِ الأمارة بالسوء وإغوائِها لا بشيء آخرَ من البرهان العقليّ أو الإلهامِ الإلهي فعند ذلك { قَالَ فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا } .