قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } . نزلت في علماء اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرهما من الأحكام التي كانت في التوراة .
قوله تعالى : { أولئك يلعنهم الله } . وأصل اللعن الطرد والبعد .
قوله تعالى : { ويلعنهم اللاعنون } . أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون : اللهم العنهم . واختلفوا في هؤلاء اللاعنين .
قال ابن عباس : جميع الخلائق إلا الجن والإنسن . وقال قتادة : هم الملائكة وقال عطاء : الجن والإنس وقال الحسن : جميع عباد الله . قال ابن مسعود : ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته . وقال مجاهد : اللاعنون البهائم ، تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وقالت هذا من شؤم ذنوب بني آدم ثم استثنى فقال : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ }
هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب ، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته ، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله { مِنَ الْبَيِّنَاتِ } الدالات على الحق المظهرات له ، { وَالْهُدَى } وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم ، ويتبين به طريق أهل النعيم ، من طريق أهل الجحيم ، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم ، بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه ، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين ، كتم ما أنزل الله ، والغش لعباد الله ، فأولئك { يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ } أي : يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته .
{ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } وهم جميع الخليقة ، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة ، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم ، وإبعادهم من رحمة الله ، فجوزوا من جنس عملهم ، كما أن معلم الناس الخير ، يصلي الله عليه وملائكته ، حتى الحوت في جوف الماء ، لسعيه في مصلحة الخلق ، وإصلاح أديانهم ، وقربهم من رحمة الله ، فجوزي من جنس عمله ، فالكاتم لما أنزل الله ، مضاد لأمر الله ، مشاق لله ، يبين الله الآيات للناس ويوضحها ، وهذا يطمسها{[114]} فهذا عليه هذا الوعيد الشديد .
عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفاً .
قال المفسرون إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم ، وهو يقتضي أن اسم الموصول للعهد فإن الموصول يأتي لما يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا ، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول هنا للجنس فهو كالمعرف بلام الاستغراق فيعم ويكون من العام الوارد على سبب خاص ولا يخصص بسببه ولكنه يتناول أفراد سببه تناولاً أولياً أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها لأن دلالة العام على صورة السبب قطعية ودلالته على غيرها مما يشمله مفهوم العام دلالة ظنية ، فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل إلى مبلغ قوله تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } [ البقرة : 75 ] إلى قوله : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } [ البقرة : 101 ] الآية وما قابل به أشباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية ، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [ البقرة : 114 ] الآيات ، فنوه بإبراهيم وبالكعبة واستقبالها وشعائرها وتخلل ذلك رد ما صدر عن اليهود من إنكار استقبال الكعبة إلى قوله : { وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة : 146 ] ( يريد علماءهم ) ثم عقب ذلك بتكملة فضائل الكعبة وشعائرها ، فلما تم جميع ذلك عطف الكلام إلى تفصيل ما رماهم به إجمالاً في قوله تعالى : { إن فريقاً منهم } فقال : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا } الخ ، وهذه طريقة في الخطابة هي إيفاء الغرض المقصود حقه وتقصير الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه ثم الرجوع إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد أو اعتراض تخلل الغرض المقصود .
فجملة : { إن الذين يكتمون } الخ استئنافُ كلام يعرف منه السامع تفصيل ما تقدم له إجماله ، والتوكيد بإنَّ لمجرد الاهتمام بهذا الخبر .
والكتم والكتمان عدم الإخبار بما من شأنه أن يُخْبَر به من حادثٍ مسموع أو مرئي ومنه كتم السر وهو الخبر الذي تخبر به غيرك وتأمره بأن يكتمه فلا يخبره غيره .
وعبر في : { يكتمون } بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى ، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعني به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين .
ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك .
والمراد بما أنزلنا ما اشتملت عليه التوراة من الدلائل والإرشاد ، والمراد بالكتاب التوراة .
والبينات جمع بينة وهي الحجة وشمل ذلك ما هو من أصول الشريعة مما يكون دليلاً على أحكام كثيرة ، ويشمل الأدلة المرشدة إلى الصفات الإلهية وأحوال الرسل وأخذ العهد عليهم في اتباع كل رسول جاء بدلائل صدق لا سيما الرسول المبعوث في إخوة إسرائيل وهم العرب الذين ظهرت بعثته بينهم وانتشرت منهم ، والهدى هو ما به الهدى أي الإرشاد إلى طريق الخير فيشمل آيات الأحكام التي بها صلاح الناس في أنفسهم وصلاحهم في مجتمعهم .
والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم ، ويكون بإزالته من الكتاب أصلاً وهو ظاهره قال تعالى : { وتخفون كثيراً } [ الأنعام : 91 ] ، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له ، وحذف متعلق { يكتمون } الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته .
وقوله : { من بعد } متعلق ب ( يكتمون ) وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة .
واللام في قوله : { للناس } لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بيناً ، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتماناً للحق وحرماناً منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم .
والتعريف في ( الناس ) للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدي الناس كلهم وهو استغراق عرفي أي الناس المشرع لهم .
وقوله : { أولئك } إشارة إلى { الذين يكتمون } وسط اسم الإشارة بين اسم { إنَّ } وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم ، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .
واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالاً في كلامهم .
وقد اجتمع في الآية إيماآن إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخبر أي علته وسببه ، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك ، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائماً مقام التنصيص على العلة .
واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب ، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم ، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور ، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضاً فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل . وكذلك القول في قوله : { ويلعنهم اللاعنون } ، وكرر فعل { يلعنهم } مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في { إن الله وملائكته يصلون } [ الأحزاب : 56 ] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن .
والتعريف في : { اللاعنون } للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن ، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابَه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة . ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [ آل عمران : 187 ] .
وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في ( حوريب ) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين ، والعهد الذي أخذه عليهم في ( مؤاب ) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه : « أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم . . . لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب . . . فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه . . . حينئذٍ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا . . . لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة » . وفي الإصحاح الثلاثين : « ومتى أتت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك » وفيه : « أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت ، البركة واللعنة » .
فقوله تعالى : { ويلعنهم اللاعنون } تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائماً بينهم فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين به ، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضاً يقرأون التوراة فإذا قرأوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنزل من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنون باللام استغراقاً عرفياً .
واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي . وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفاً لأن المنكَّر مجهول ، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه .
ولما كان في صلة { الذين يكتمون } إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلاً من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقاً بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر ، وعن ابن عباس أن كل ما ذمّ الله أهلَ الكتاب عليه فالمسلمون محذَّرون من مثله ، ولذا قال أبو هريرة لما قال الناسُ أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } الآية وساق الحديث .
فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هُدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيراً للمسلمين ، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومىء إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يُلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حدثوا الناس بما يفْهمون أتحبُّون أنْ يكذَّب اللَّهُ ورسولهُ " وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعَه . وفي « صحيح البخاري » أن الحجَّاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا ، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه ، أو يتلفقون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم ، قال ابن عرفة في « التفسير » : لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلاً أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في « الإحياء » من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة ، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضرراً فادحاً في الناس . وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامداً غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوماً والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لِمَ خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطىء كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود اهـ .
قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حُرمة فريضة الصوم .
فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علماً أو يبين شرعاً وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم ، وإن لم يكن معيناً بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد ، فهذا يجب عليه بيانه وجوباً متعيناً عليه إن انفرد به في عصر أو بلد ، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : « إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً » . وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية ، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم ، فإنما يجب عليه عيناً أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه ، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذٍ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه ، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه ، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية ، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة ، وهذا يجيء أيضاً في جواب العالم عما يلقى إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجيء في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائي . وفي غير هذا فهو في خيرة أو يجيب أو يترك . وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب « السنن الأربعة » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها .
وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته .
والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرىء به لدينه وعرضه .
والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم ، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين .
ويجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى : { والهدى } حتى يكون ذلك ضابطاً لما يفضي إليه كتمان ما يكتم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين يكتمون}، وذلك أن معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وحارثة بن زيد، سألوا اليهود عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعن الرجم وغيره فكتموهم، يعني اليهود، منهم: كعب ابن الأشرف، وابن صوريا، {ما أنزلنا من البينات}، يعني ما بين الله عز وجل في التوراة، يعني الرجم والحلال والحرام.
{والهدى}: أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فكتموه الناس.
{من بعد ما بيناه}: يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
{للناس في الكتاب}: لبني إسرائيل في التوراة.
{أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}: وذلك أن الكافر يضرب في قبره فيصيح ويسمع صوته الخليقة كلهم، غير الجن والإنس، فيقولون: إنما كان يحبس عنا الرزق بذنب هذا، فتلعنهم الخليقة، فهم اللاعنون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات، علماء اليهود وأحبارها وعلماء النصارى، لكتمانهم الناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل من البينات التي أنزلها الله ما بين من أمر نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره، أن أهلهما يجدون صفته فيهما.
ويعني تعالى ذكره بالهدى، ما أوضح لهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إن الذين يكتمون الناس الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته وصحة الملة التي أرسلته بها وحقيتها فلا يخبرونهم به ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم، "أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إلاّ الّذِينَ تَابُوا "الآية.
{مِنْ بَعْدِ مَا بَيّنَاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ} [يعني] بعض الناس لأن العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، وإياهم عنى تعالى ذكره بقوله: "للنّاسِ في الكتاب" ويعني بذلك التوراة والإنجيل. وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصّ من الناس، فإنها معنيّ بها كل كاتم علما فرض الله تعالى بيانه للناس. وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارِ».
{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ}... واللعنة الفَعْلة، من لعنه الله بمعنى: أقصاه وأبعده وأسحقه. وأصل اللعن: الطرد...
فمعنى الآية إذا: أولئك يبعدهم الله منه ومن رحمته، ويسأل ربهم اللاعنون أن يلعنهم، لأن لعنة بني آدم وسائر خلق الله ما لعنوا أن يقولوا: اللهم العنه، إذ كان معنى اللعن هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره باللاعنين...
فقال بعضهم: عنى بذلك دوابّ الأرض وهوامها.
وقال آخرون: عنى الله [بذلك]: الملائكة والمؤمنين.
وقال آخرون: يعني باللاعنين: كل ما عدا بني آدم والجن.
وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: اللاعنون: الملائكة والمؤمنون لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالمَلاَئِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ}. فكذلك اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حالة بالفريق الاَخر الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس، هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، وهم اللاعنون، لأن الفريقين جميعا أهل كفر...
هذه الآية موجبة لإظهار علوم الدين وتبيينه للناس؛ زاجرة عن كتمانها. ومن حيث دلت على لزوم بيان المنصوص عليه فهي، موجبة أيضاً لبيان المدلول عليه منه وترك كتمانه لقوله تعالى {يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} وذلك يشتمل على سائر أحكام الله في المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع. وقوله تعالى {يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} يدل على أنه لا فرق في ذلك بين ما علم من جهة النص والدليل؛ لأن في الكتاب الدلالة على أحكام الله تعالى كما فيه النص عليها، وكذلك قوله تعالى {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} عام في الجميع. وكذلك ما علم من طرق إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قد انطوت تحت الآية؛ لأن في الكتاب الدلالة على قبول أخبار الآحاد عنه عليه السلام. فكل ما اقتضى الكتاب إيجاب حكمه من جهة النص أو الدلالة فقد تناولته الآية...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ: قَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةَ {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ...} الْآيَة، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَوَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ». وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَن الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي منْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ...
المسألة الرابعة: هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين وهذا لأنه إذا أظهر البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوما، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقيين إظهاره مرة أخرى.
أما قوله تعالى: {أولئك يلعنهم الله} فاللعنة في أصل اللغة هي الإبعاد وفي عرف الشرع الإبعاد من الثواب.
أما قوله تعالى: {ويلعنهم اللاعنون} فيجب أن يحمل على من للعنته تأثير، وقد اتفقوا على أن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك فهم داخلون تحت هذا العموم لا محالة...
قال القاضي: دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر لأنه تعالى أوجب فيه اللعن، ويدل على أن أحدا من الأنبياء لم يكتم ما حمل من الرسالة وإلا كان داخلا في الآية.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والناس هنا: أهل الكتاب، والكتاب التوراة والإِنجيل، وقيل: الناس أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب: القرآن. والأولى والأظهر عموم الآية في الكاتمين وفي الناس وفي الكتاب؛ وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: « من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والمرادُ بكتمه إزالتُه ووضعُ غيرِه في موضعه فإنهم محَوْا نعته عليه الصلاة والسلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه في تفسير قوله عز وعلا: {فَوَيْلٌ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب} [البقرة، الآية 79] الخ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وقد اختلف الناس في صفة هذا الكتمان؛ فقال بعضهم: إنهم كانوا يحرفون أوصافه والبشارات فيه من كتبهم، وهو غير معقول إذا لا يمكن أن يتواطأ أهل الكتاب على ذلك في جميع الأقطار، ولو فعله الذين كانوا في بلاد العرب لظهر اختلاف كتبهم مع كتب إخوانهم في الشام وأوربة مثلا، ويذهب آخرون إلى أن الإنكار كان بالتحريف والتأويل وحمل الأوصاف التي وردت فيه والدلائل التي تثبت نبوته على غيره حتى إذا سئلوا: هل لهذا النبي ذكر في كتبهم؟ قالوا: لا على أن في كتبهم أوصاف لا تنطبق إلا على نبي العرب وأظهرها ما في التوراة وكتاب أشيعا فإنه لا يقبل التأويل إلا بغاية التحمل والتعسف. وكذلك فعلوا بالدلائل على نبوة المسيح فإنهم أنكروا انطباقها عليه وزعموا أنها لغيره، ولا يزالون ينتظرون ذلك الغير.
وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنهم لم يقتصروا على كتمان الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالتأويل بل كتموا ما في الكتاب من الهدى والإرشاد بضروب التأويل أيضا حتى أفسدوا الدين وانحرفوا بالناس عن صراطه. وذكر جزائهم فقال {أولئك} أي الذين كتموا البينات والهدى فحرموا النور السابق والنور اللاحق. أو الذين شأنهم هذا الكتمان في الحل والاستقبال {يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} أما لعن الله لهم فهو حرمانهم من رحمته الخاصة بالمؤمنين في الدنيا والآخرة...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، والدين يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشي الهدى، ثم هو لا ينتصر بيد ولا لسان، يكون ممن يستحق وعيد الآية، وقد لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهي عن المنكر، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله {مِنَ الْبَيِّنَاتِ} الدالات على الحق المظهرات له، {وَالْهُدَى} وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا الناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، فأولئك {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته.
{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}: وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها، فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلاً وهو ظاهره قال تعالى: {وتخفون كثيراً} [الأنعام: 91]، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له، وحذف متعلق {يكتمون} الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته.
واللام في قوله: {للناس} لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بيناً، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتماناً للحق وحرماناً منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم.
واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضاً فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله: {ويلعنهم اللاعنون}، وكرر فعل {يلعنهم} مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في {إن الله وملائكته يصلون} [الأحزاب: 56] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن. والتعريف في: {اللاعنون} للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابَه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة.
وكلمة (اللعن) وردت في القرآن إحدى وأربعين مرة، وساعة تأتي للعذاب تكون للطرد والإبعاد بغضب، وهو الخلود في النار، وساعة يكون الطرد إبعاد تأديب، فلا يوجد بغضب؛ لأن المؤدّب لا يغضب على من يؤدبه، وإنما يغضب لمن يؤدبه. وعندما يحدث الطرد من بعد غضب، فذلك دليل على أنه ليس من بعد ذلك رجعة، فالإنسان إذا ترك لشيء صامت ليعذب به كالنار، يقول لنفسه: (ربما جاء من يرقّ لحالي ويعطف علي فيخرجني من النار)، إنه يقول ذلك لنفسه: لأن الذي يعذب به صامت لا عاطفة له، لكن ما المخرج إذا كانت اللعنة من الله والملائكة والناس؟ كما يقول الحق في آية أخرى: {أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين 87} (سورة آل عمران)... ويتضح لنا هنا أن لعنة الله تكون في الدنيا وفي الآخرة، ويلعنهم اللاعنون من الناس، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا فيها نجد أن اللعنة أشمل، لأن (اللاعنون) تضم الناس وغير الناس من الكائنات الأخرى، كأن كل من في الوجود يشترك في لعنهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الحقيقة أمانة اللّه لدى العلماء: ربما يكون المقصود بهؤلاء الذين يكتمون ما أنزل اللّه، أهل الكتاب أو اليهود منهم خاصة، كما في بعض الأحاديث المأثورة أو التفاسير المتنوّعة، كما عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر أهل العلم. ولكنَّ الآية لا تتجمد عند النماذج التي نزلت فيهم أو انطلقت منهم، لأنَّ أسباب النزول تعتبر منطلقاً للفكرة من خلال النموذج الحيّ في عصر نزول الآية، لتتحرّك الفكرة من خلال الواقع الذي يقتحم على النّاس حياتهم في نطاق المشكلة الحية البارزة.
وفي ضوء ذلك، نقرّر أنَّ الآية واردة لتقرير المبدأ العام الشامل لكلّ النّاس الذين يملكون المعرفة بحقائق الأشياء، وآفاق البيّنات، وسُبُل الهدى، في ما بيّنه اللّه للنّاس في كتابه، سواء [أكان] من الكتب الأولى التي أنزلت على إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، [أم] كان المراد به الكتاب الأخير الذي هو القرآن، فإنَّ الإنسان الذي يملك المعرفة يحمل مسؤوليتها أمام اللّه بأن يبينها للنّاس إذا طلبوها منه، أو إذا غفلوا عنها فلم يلتفتوا إليها، فلا يجوز له أن يخفيها عنهم أو يكتمها، لأنَّ في ذلك إخفاءً للحقيقة، وكتماناً للرسالة، ما يوجب وقوع النّاس في الضلال أو انحرافهم عن خطّ الحقّ وضياعهم في متاهات الجهل والحيرة. وهذا مخالف للسنّة الإلهية التي درجت على إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب، ليفتحوا عيون النّاس وقلوبهم على الحقيقة، وليخطّطوا لهم درب الحياة على أساس المنهج الواضح المستقيم.
ولما كانت أعمار الأنبياء محدودة، وكانت وسائل وصول الرسالات والكتب السَّماوية مرتبطة بالظروف الموضوعية التي تتحرّك فيها الرسالات، كان لزاماً على أتباع الأنبياء والرسالات أن يحملوا هذه الأمانة التي حملها الأنبياء، ويبلّغوها من جيل إلى جيل لتتصل الحلقات في سلسلة واحدة، ولترتكز المراحل المتعدّدة على أساس خطّة ثابتة ممتدة، ولتتحرّك الحياة في خطوات الرسالات خطوة خطوةً. ولولا ذلك لماتت الرسالات بموت أصحابها، إذا لم تسمح الصدفة بانطلاقة مصلح أو متحمس تدفعه نزعته الإصلاحية أو حماسته الإيمانية إلى حمل الرسالة من جديد، وهذا هو ما توحي به الآية الكريمة...