فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَـٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ} (159)

{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }

فيه إخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون ، وفيه دليل على جواز لعن الكافر بعد موته خلافا لمن قال إنه لا فائدة له ، واختلفوا من المراد بذلك فقيل أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرها من الأحكام التي كانت في التوراة ، وقيل : كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية لكل من كتم الحق .

وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره ، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يأتي منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها .

وفي قوله { من البينات والهدى } دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال أبو هريرة : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم أخرجه البخاري .

والضمير في { بيناه } راجع إلى { ما أنزلنا } والكتاب اسم جنس وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب ، وقيل المراد به التوراة ، واللعن : الإبعاد والطرد ، والمراد بقوله { اللاعنون } الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره ورجحه ابن عطية ، وقيل كل من يتأتى منه اللعن ، فيدخل في ذلك الجن والإنس ، وقال ابن عباس : جميع الخلائق إلا الجن والإنس ، وقيل هم الإنس والجن ، وقيل ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت إلى اليهود والنصارى الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام التوراة والإنجيل وقيل هم الحشرات والبهائم .

ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء ابن عازب قال : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته ) فذلك قوله تعالى : { ويلعنهم اللاعنون } يعني دواب الأرض ، وعن مجاهد إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم وعنه أن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم ، وعن أبي جعفر يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء .

وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد لفاعله .

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا { إن الذين يكتمون } الآية وقوله { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } إلى آخرها .

وهل إظهار علوم الدين فرض كفاية أو فرض عين ، فيه خلاف ، والأصح أنه إذا أظهرها البعض بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه لم يبق مكتوما ، وقيل متى سئل العالم عن شيء يعلمه من أمر الدين يجب عليه إظهاره وإلا فلا ، وفي الآية دليل على وجوب قبول قول الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله .