الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَـٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ} (159)

قوله تعالى : { مَآ أَنزَلْنَا } : مفعول بيكتمون ، و " أَنْزلنا " صلتُه وعائدُه محذوفٌ ، أي أنزلناه . و " من البيناتِ " يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها حالٌ من ما الموصولةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائناً من البينات . الثاني : أَنْ يتعلَّق بأنزلنا فيكونَ مفعولاً به قالَه أبو البقاء ، وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه إذا كان مفعولاً به لم يتعدَّ الفعلُ إلى ضميرٍ ، وإذا لم يتعدَّ إلى ضميرِ الموصولِ بقي الموصولُ بلا عائدٍ . الثالث : أن يكونَ حالاً من الضميرِ العائدِ على الموصولِ ، والعاملُ فيه " أنزلنا " لأنه عاملٌ في صاحبها .

قوله : { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ } متعلِّقٌ بيكتُمون ولا يتعلَّقُ بأَنْزَلْنا لفسادِ المعنى ، لأنَّ الإِنزالَ لم يكُنْ بعد التبيين ، وأمَّا الكتمان فبعد التبيين . والضميرُ في بَيَّنَّاه يعودُ على " ما " الموصولةِ . وقرأ الجمهور " بَيَّنَّاه " ، وقرأ طلحة بن مصرف " بَيَّنه " على ضمير الغائبِ وهو التفاتٌ من التكلمِ إلى الغَيْبةِ . و " الناس " متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه .

وقوله : { فِي الْكِتَابِ } يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه متعلِّقٌ بقوله : " بَيَّنَّاه " . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في " بَيَّنَّاه " أي : بَيَّنَّاه حالَ كونِه مستقراً كائناً في الكتاب .

قوله : { أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ } يجوز في " أولئك " وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مبتدأً و " يلعنُهم " خبرُه والجملةُ خبرُ " إنَّ الذين " / . والثاني : أن يكونَ بدلاً من " الذين " و " يَلْعَنُهم " الخبرُ لأنَّ قولَه : " ويَلْعَنُهم اللاعنون " يَحْتَمل أنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه وهو " يلعنهم الله " وأَنْ يكونَ مستأنفاً . وأتى بصلةِ الذينَ فعلاً مضارعاً وكذلك بفعل اللعنةِ دلالةً على التجدُّد والحُدوث ، وأَنَّ هذا يتجدَّد وقتاً فوقتا ، وكررت اللعنة تأكيداً في ذمِّهم . وفي قوله " يَلْعَنُهم اللهُ " التفاتٌ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ لقال : نلعنهم لقوله : " أنزلنا " ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضميرِ .